مأساة جميلة الأندلسية.جنى عليها أخوها عندما أشركها فى حروبه التى خاضها ضد الأمير الأندلسى “عبدالرحمن بن الحكم بن هشام”؛ إذ كان من البربر الذين نقموا على العرب؛ ولم يستفيدوا من مغانم الفتح العربى للأندلس، فتمردوا عليهم وثاروا ضدهم، وحاولوا أن يستولوا على بعض المدن النائية، فكانوا بذلك شوكة فى ظهر المسلمين، وشجعهم على هذا التمرد الأعداء المتربصون بالعرب، فأمدوهم بالعدة والعتاد، وكل ذلك لإضعاف الحكومة العربية بالأندلس وإنهاكها فيسهل القضاء عليها. أما اسمها فهى جميلة بنت عبدالجبار بن زاقلة المصمودى، يقول عنها ابن حزم الأندلسى فى كتابه “جمهرة أنساب العرب”: “وجميلة أخته المشهورة بالشجاعة والنجدة والفروسية ولقاء الفرسان ومبارزتهم فى العساكر”. ولدت جميلة قبل نهاية القرن الثانى الهجرى بقليل، لم تكن فتاة شأنها شأن أى فتاة فى مثل سنها، تتفرغ لشئون البيت واحتياجاته، أو تشتهى الزواج وتكوين أسرة، لكنها عزمت على حمل السيف والمبارزة والاشتراك فى المعارك، وشدت من أزر أخيها، ولم تكن له رادعة، بل تفعل ما يأمرها به، تشد الترحال معه من مدينة إلى أخرى، لتحقيق مجد معنوى زائف، يريد أن يكون أميرا بالعافية.
ولد محمود بن عبدالجبار بن زاقلة بمدينة “ماردة” وهى مدينة يكثر بها البربر، وكان شجاعا فارسا مقداما وزعيما قويا، ونظرا لطموحه الكبير فى أن يصبح حاكم المدينة، انضم إليه البربر، وسرعان ما كونوا جبهة بقيادته، وبالطبع كانت معه الجميلة “جميلة” أخته، وأعجب البربر بها نظرا لجمالها وشجاعتها وبراعتها فى النزال والقتال، وهو ما جعل الأنصار يلتفون حول محمود، ويباركون بيعته، ويصيرونه أميرا عليهم، كتب عنها مؤرخ الأندلس الشهير “محمد عبدالله عنان” مرتين، الأولى فى كتابه “دولة الإسلام فى الأندلس” الجزء الأول، وجاء ذكرها فى الكتاب مقتضبا، عدة أسطر قليلة، والثانية بمجلة الهلال فى عدد سبتمبر 1956، وأفرد لها مقالة بديعة، ومنها هذا الوصف:”ربعة القوام، تمتاز بحسنها الباهر، وحركاتها الرشيقة، ذات بشرة ناصعة ناعمة، وعينين خضراوين نجلاوين، وشعر غزير أسود، يتهدل على كتفيها، وكانت تهيم منذ حداثتها بركوب الخيل والتجريب على الطعان، وتلازم أخاها فى معظم ركباته وجولاته وصولاته”.
لم تكن جميلة تؤمن بفكرة شق عصا الطاعة، أو تمزيق شمل المسلمين، أو تفريق وحدتهم، أو الخروج على الحاكم، فقد ذكر “ابن القوطية”، صاحب كتاب الأفعال وتوفى 367 هـ، فى كتابه “تاريخ افتتاح الأندلس” تحقيق إبراهيم الإبيارى، أن جميلة كانت تدعو إلى الطاعة، وأن أخاها محمود كان يدعو إلى الخلاف والمعصية، هذا وقد وردت جميلة عند ابن القوطية باسم “جَملة”.
ثار محمود بن عبدالجبار على والى “ماردة”، مروان الجليقى، وقتله، واستولى على المدينة، فأرسل أمير الأندلس عبدالرحمن بن الحكم الحملات المتوالية، لمعاقبة هذا المتمرد الخائن، لكن الحملات تفشل فى ردع محمود، فيضطر عبدالرحمن إلى أن يسير بنفسه ليؤدبه، ويهرب محمود ومعه أخته جميلة وصديقه سليمان بن مرتين وهو من المولدين، أصحاب البلد الذين أسلموا. ولا يستقر محمود فى مكان بعينه وإنما يعتمد على الإغارة على المناطق القربية من ماردة.
لم يرعوِ محمود، ولم يكتف بما حدث له من البعد عن الديار، وتشتيت كلمة المسلمين، وهو يدرك أنه معول هدم يستخدمه ملوك الإفرنج لإضعاف الدولة الإسلامية بالأندلس، ومن الجائز أن أخته جميلة قد طالبته بالكف عن الإغارة على المسلمين، وطالبته بالامتثال لأمير البلاد، لكنه لم يأخذ بنصيحتها، بل أمرها أن تمتثل هى لأوامره، وأن تساعده على استرداد حقهم، حق البربر الذين ساعدوا العرب على فتح الأندلس، ثم يأتى هذا الطريد عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك بن مروان بن الحكم الأموى، ليستولى على الأندلس بعد أن قُطِع دابر دولته فى المشرق، كيف يعقل يا أختاه؟! إنه حقنا وحق آبائنا الذين استشهدوا فى هذا الفتح، ساعدينى يا بنت أبى، ولا مانع من الاستعانة بملوك الإفرنج، وبعد ذلك نحارب الإفرنج، وإذا كنا قد هزمناهم قبل ذلك فنحن قادرون على إلحاق الهزيمة بهم مرة أخرى.
وهنا سكتت جميلة أو كفت عن نصح أخيها، لعله يكون على الصواب، وامتنعت عن الزواج أو لم يكن يشغل بالها أو حتى تفكر فيه رغم كثرة محبيها، وإنما المهم عندها أن يصبح أخوها أميرا على منطقة ما، وقد يأتى يوم يكون فيه الحاكم الأوحد للأندلس.
جمَّع محمود شمله، وبدأ يعد العدة من جديد للهجوم على مدينة “باجة” وهى مدينة بعيدة الأطراف عن الحكومة المركزية، ومن ثم يمكن أن يتغلب عليها بمنتهى السهولة لصعوبة وصول المدد والمؤن إليها، ولا شك فى أن “جميلة” ساعدته فى حملته على المدينة، فلم يتمكن محمود من المدينة بسهولة، بل خاضت حربا ضروسا ضده، وكان الفيصل فى هذه المعركة هو تدخل جميلة الحاسم، ويصف لنا “ابن حيان” الأندلسى، توفى 469 هـ أى من المعاصرين لابن حزم 456 هـ وابن عبدالبر 463 هـ – طبيعة هذا التدخل، فى كتابه “المقتبس فى تاريخ أهل الأندلس – السفر الثانى” تحقيق الدكتور محمود على مكى؛ إذ أمر محمود النساء اللائى يصحبن جيشه أن يسبلن شعورهن ويركبن الدواب ويحملن السلاح؛ بحيث يظهرن وكأنهن جيش آخر، فيدب الضعف والوهن فى قلوب أهل باجة، وهو ما حدث بالفعل، فبعد انتهاء المعركة بين الجيشين، ظهر جيش النساء الذى كانت تقوده جميلة، رافعة علم أخيها، ومن ثم انتصر محمود واستولى على باجة، وتناقل الناس فى أنحاء الأندلس أخبارها ومغامراتها، متعجبين من امرأة تتمتع بجمال وافر وأى جمال وتحمل السلاح وتمتطى الجياد وتبارز فى الميدان، ما لك ولهذا يا جميلة!
لكن الحكومة المركزية لم توافق على استيلاء محمود على المدينة، فجهزت الجيوش وسيرتها لاستردادها، وفى كل مرة يكون النصر حليفا لمحمود وجميلة، إلى أن سار عبدالرحمن بن الحكم بنفسه هذه المرة للقضاء على الثائر الخارج عن القانون سنة 220 هـ، وأدرك محمود أن ملاقاة الأمير فى معركة بينهما لن تكون فى مصلحته، فترك “باجة” وأخذ أتباعه وفر إلى الجبال، ولم يستطع جيش الأمير أن يقتص منه، لكن محمود شعر بحرج موقفه، فقرر أن يرحل بحاشيته إلى ألفونسو الثانى ملك جليقية، طالبا حمايته وأن يكون تحت رعايته، فسُرَّ الملك بذلك الطلب، لعلمه أنه سيكون شوكة فى حلق الأمير عبدالرحمن بن الحكم.
أكرم ألفونسو الثانى وفادة محمود وأخته جميلة، وعاش بعضا من الوقت فى دعة وسكون، لكن جميلة الفارسة النبيلة لم يعجبها هذا الوضع، وحثت أخاها على أن يهرب بها إلى أرض الآباء والأجداد، ماردة، وقال لها محمود: أختاه، نحن الآن نعيش فى أمان، وليس من مصلحتنا العودة إلى ماردة، أنسيتِ ماذا فعلنا بالمدينة؟! لقد قتلنا واليها، ونهبنا وسرقنا، كما استولينا على مدينة باجة بعد حرب كنتِ أنت بطلتها أختاه، وفعلنا ما فعلناه فى المدينة من قتل وتخريب وتدمير، وهزمنا جيوش الأمير بن الحكم، إلى أن جاء بنفسه ليحاربنا، وبعد كل هذا تريدين العودة إلى الديار! ماذا ينقصنا هنا يا حبيبة قلبى!
وهنا انفصلت جميلة عن حديث أخيها، وراح خيالها يطوف بعيدا وبعيدا، وتسأل نفسها: حقا لا ينقصنى شىء؟! أنت لا تدرى شيئا يا محمود، لقد نسيت نفسى معك يا أخى، ولم أفكر قط فى مصلحتى، العمر يجرى وأنا لم أحقق مرادى، هل أحببت رجلا؟ لا، هل أحبنى رجل؟ نعم، عشرات بل مئات، إنهم من رجالك يا أخى. إننى أفتقد رجلا يا محمود، أريد رجلا يختاره قلبى، أريد أن أحب مثل كل الفتيات، إن من فى سنى تزوجن وأنجبن أطفالا صاروا الآن فى مطلع الشباب، وأنا ما زلت عذراء، يقولون عنى: جميلة العذراء. هل كُتِبَ علىَّ أن أموت عذراء؟ هل كُتِبَ علىَّ القتال ومبارزة الرجال طول العمر؟ لقد أخطأت يا أخى فى تصرفى هذا، ما لى ولهذه الأعمال الشاقة التى يفر منها أعتى الرجال! إننى امرأة وفى غاية الجمال كما يقولون، لماذا لا أعيش فى قصر هادئة البال؟ لا، لا أريد قصرا، أريد كوخا من القش، أريد الراحة يا أخى، أنا لم أنعم بالراحة منذ أن سرت فى ركابك، أنت حطمتنى يا أخى…
وفاقت جميلة على صوت أخيها، وهو يقول: جميلة، جميلة ما بك؟
وطالبته بأن يتجه بها إلى ماردة، وقالت: محمود، اكتب إلى الأمير عبدالرحمن طالبا منه الصفح عنك، إننا هنا أغراب، هذه ليست بيئتنا، ونعيش مع رجال ليسوا على ديننا، أنا أخشى على نفسى إن متَّ أنت يا أخى، ماذا أفعل؟ هل تريدنى أن أتزوج نصرانيا؟! اكتب له لعله يعفو عنك.
وأطرق محمود مليا يفكر فيما وصلت إليه حاله وحال أخته، وكيف هانت عليه نفسه أن يعيش ذليلا فى أرض غريبة عليه! كيف سمح لنفسه بأن يتعاون مع الكفرة ضد إخوانه المسلمين! إنه يتذكر الآن كيف استشهد أجداده فى فتح الأندلس، وكيف رووا بدمائهم الذكية هذه الأرض الطيبة، أبسبب البحث عن مغانم الفتح يضع يده فى يد هؤلاء الأنجاس! ويقول لنفسه: آه يا محمود! أنت أشقى الناس الآن، أختك تعيش فى أرض النصارى، ماذا يحدث لها إن متُّ، أتتزوج علجًا نصرانيا؟ لو كان أبى حيًّا لقتلنى، أنا رجل مسلم وأختى مسلمة، والإسلام لا يبيح زواج المسلمات من النصارى الكفرة، أين النخوة يا محمود؟ أين طابع البربر الحامى؟ لقد أصبحت بارد الدم مثلهم، وشيئا فشيئا سأكون مثلهم على ملتى، يا لخيبتى! إن الفرصة مازالت سانحة أمامى، سأطلب إلى أمير الأندلس المسلم الصفح والعفو والسماح، والله لو حدث وعدت إلى ديار الإسلام لأصبحت جنديا من جنوده، ولدافعت عن الديار، وغزوت الفرنج وغيرهم من الأعداء. إن الأمير سيعطينى الأمان، ما علىَّ إلا الكتابة إليه.
والتفت محمود إلى أخته، وقال: أريد منك أن تسامحينى يا جميلة، لقد جنيت عليك، وحكمت عليك بالشقاء، ومن أجل هذا سأفعل ما يرضيك ويرضينى، سأكتب إلى أمير الأندلس، وسنعود إلى ديارنا، أنا بحاجة إلى عفوك أولا يا بنة الأب. وانهار محمود فى البكاء، وقبَّل يد أخته التى كانت دائما ما تنقذه، وحان دوره لإنقاذها من أن تكون فريسة لواحد من هؤلاء النصارى.
أرسل محمودا خطابا إلى الأمير عبدالرحمن بن الحكم، يطلب إليه أن يسامحه وأن يعطيه الأمان، وبالفعل وافق الأمير المسلم على طلب محمود، كما وعده بأن يجزل له عطاءه، ويعيش حياة كريمة، واتفقا على موعد العودة. وأخبر محمود أخته جميلة بالذى دار بين الأمير وبينه، وأن الأمير موافق على عودتهما إلى أرض الوطن، ولما علمت جميلة بهذا كانت أسعد امرأة فى الأندلس قاطبة، ولم لا، وها هى ستعود إلى أرض الآباء والأجداد، وستعيش حياتها بين إخوانها المسلمين، فلا خوف عليها إن مات أخوها أو رحل عنها.
وانتظر محمود الجواب الأخير من الأمير لكنه لم يأت، إذ قد وصل إلى الأمير ألفونسو الثانى، وهنا جن جنون ألفونسو، فأمر بإحضار محمود إليه، لكنه خشى على نفسه منه، فتعلل بمرضه، فأعد له ألفونسو جيشا كبيرا؛ لأنه يعلم أن محمود فارس مغوار شجاع غير هياب للموت، فدافع محمود عن نفسه وعن شرفه، وكانت جميلة إلى جواره تدافع عن نفسها وعن أخيها، وهى قد اعتادت هذه الصعاب والمواجهات، ولكن كما يقال فإن الكثرة تغلب الشجاعة، فقد قتل محمود وأشياعه، لكن جميلة لم تستسلم؛ فهى تعلم أنها إن استسلمت فستصير محظية لجثليق من جثالقة جليقية.
وفى النهاية، أسرت جميلة سنة 225 هـ الموافق لسنة 840 م، وقد تجاوزت الثلاثين بقليل، ومازالت تتمتع بالجمال البربرى الفتان، فتنافس عليها كبار نبلاء النصرانية للظفر بها، إلى أن ظفر بها نبيل منهم ولم تذكر المصادر اسم هذا النبيل، وكان محبا لها، يغدق عليها أفخر الهدايا، وتخلت جميلة عن الإسلام واعتنقت النصرانية، ولا نعرف لماذا فعلت ذلك هل بسبب الحب؟ أم الهدايا الفاخرة؟ أم الاستسلام للأمر الواقع؟ كيف قبلت جملية أن تكون نصرانية وأجدادها استشهدوا فى فتح الأندلس؟ لقد أعلنت صراحة أنها تود أن ترجع إلى ماردة، ولماذا لم تدافع عن نفسها وعن شرفها الذى دنسه نصرانى؟ كان عليها أن تقتل نفسها وهى التى قتلت مئات الرجال، أو تقتل النصرانى الذى اتخذها سبية فى أول الأمر، لكنها لم تفعل شيئا، بل خرجت من الإسلام وعاشت طويلا فى النصرانية، وأنجبت منها أبناء، ومن عقبها أسقف مدينة “شنت ياقب” سنتياجو.
المصادر:
– السفر الثانى من المقتبس لابن حيان الأندلسى.
– جمهرة أنساب العرب لابن حزم.
– دولة الإسلام لعنان ج 1.
– مجلة الهلال، لعنان، سبتمبر 1956.
– تاريخ افتتاح الأندلس ابن القوطية تحقيق إبراهيم الإبيارى.
– تاريخ إسبانيا الإسلامية من الفتح إلى سقوط الخلافة القرطبية ج 1 ليفى بروفنسال.
– الإسلام فى أرض الأندلس للعبادى عالم الفكر 1979.
بقلم .حسين السيد