أساتذة آداب حلوان
د. بهاء حسب الله
دخلت كلية الآداب مكرها، فكان من الصعب علىَّ وعلى الأسرة أن ألتحق بكلية التجارة جامعة أسيوط، ولهذا سعيت بكل جدٍّ الالتحاق بأى كلية أخرى سواء فى جامعة الزقازيق أو فى غيرها من جامعات الوجه البحرى، وأخذت أبحث عن الكليات التى تتناسب ومجموعى، فكان أمامى كلية الآداب بجامعة المنصورة، فسافر الوالد إلى المنصورة حاملا أوراقى، لكنه عاد حزينا؛ إذ الجامعة ترفض طلبة محافظة الشرقية، هكذا قال لى، ولذلك أكره المنصورة ولا أطيق سماع اسمها. وحسنا فعلت المنصورة؛ لأن آداب حلوان كانت أقل من مجموعى، فسارعت مع الوالد بالذهاب إليها، والحمد لله قبلتنى، وصممت على الانضمام إلى قسم اللغة الفرنسية، لحصولى على الدرجة النهائية فى المادة، لكن القسم رفض؛ لأن من شروطه أن تكون خريج مدارس فرنسية، إذن لا يتبقى لى إلا اللغة العربية واللغة الإنجليزية، وفضلت الالتحاق بقسم اللغة العربية، فلا طاقة لى بالإنجليزى.
وما زلت أتذكر أول محاضرة لى بالقسم، وكانت بعد شهر ونصف الشهر من بدء الدراسة لانشغالى آنذاك بعملية التحويل من جامعة أسيوط إلى جامعة حلوان، وكانت للأستاذ الدكتور/ بهاء حسب، الذى كان يدرس لنا مادة الأدب الجاهلى، وكان يشرح ويحلل قصيدة من الشعر الجاهلى، واستغرق شرح بيت أو بيتين ساعتين تقريبا، وهذا ما جعلنى أحب اللغة العربية، وجاء اسم طه حسين فى المحاضرة، وكنت أبغضه بغضا شديدا، وقلت له بعد أن هرولت إليه فى حرم الكلية: يا دكتور، أنا لا أحب طه حسين، إنه عميل للفكر الغربى، ودائم الطعن فى الدين. قلت هذا وأنا لم أقرأ كتابا كاملا له، بل فقرات مقتطعة من سياقها، فُرضت علىَّ ولم أسعَ إليها، مثل: “للقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل عنهما ولكن ورود هذين الاسمين فى القرآن لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخ”، أو قوله “فى مستقبل الثقافة فى مصر”: “إن سبيل النهضة واضحة بينة مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء، وهى واحدة فذة ليس فيها تعدد، وهى: أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم فى الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يُحب منها وما يُكره، ما يُحمد منها وما يُعاب”، ومثل القول الذى شاع عنه :”أعطونى قلما أحمر لأصحح القرآن”، كانت مثل هذه العبارات تملأ الأذهان، وتحكم على الرجل بالكفر الصُّراح. وسألنى الدكتور بهاء: ما اسمك؟ وماذا قرأت لطه حسين؟ هل قرأت: مرآة الإسلام، على هامش السيرة، الأيام.. قلت: لا، لأننى كنت علم رياضة، فميولى من المفترض أن تكون علمية. قال: لا تسمع إلى أحد، واقرأ أعماله ثم احكم عليه بعد ذلك. ومن هنا، تغيرت نظرتى إلى طه حسين، وتغيرت نظرتى إلى الحياة بصفة عامة، واتخذته منهجا وطريقا لحياتى، فأى إنسان يأتى إلىَّ بمعلومة، فلابد من أن أتأكد أولا من صحتها، ومن أين استقاها..إلخ.
ودرس لنا الدكتور بهاء الأدب فى العصر الإسلامى، وفى العصرين الفاطمى والمملوكى. ولا أنسى أننى أحببت الشعر بعد أن كنت أمقته، واشتريت بعضا من دواوين الشعر، كديوان عنترة وحفظت جزءا من معلقته الشهيرة، والنابغة الذبيانى، واستعنت بمكتبة مصر العامة بالدقى فى قراءة الدواوين الأخرى، كجرير والفرزدق والأخطل والراعى النميرى، وتطرقنا لفن النقائض، ولا أنسى بيت جرير الشهير فى ذم الراعى وقبيلته بعد أن تحيز للفرزدق: فغُضَّ الطرف إنك من نمير فَلا كعبا بلغتَ ولا كلابا.
وراح يحدثنا عن ظاهرة الشعر العذرى ووفاء الأحبة، وفى كل هذا بدأت أتوسع رويدا رويدا فى القراءة، وأقرأ كتب الدكتور شوقى ضيف تحديدا، وكانت فرحتى لا توصف لمجرد أن قرأت كتابا غير مقرر علينا.
فضَّلت العصر الأموى عن العصر الجاهلى وقتها، وذلك لأنى تفرغت للجامعة فى بداية الفصل الدراسى الثانى، فكنت فى الفصل الأول مشغولا بمسألة التحويل، وأحببت العصر المملوكى أكثر من الفاطمى والأيوبى، لهذا حصلت على امتياز فيه، كما أننى دائم الدفاع عنه، فيما حصلت على مقبول فى العصر الفاطمى. وكنت أحفظ من الشعر أكثر من ألف بيت على مدى السنوات الأربع، وقالوا إن من يحفظ ألف بيت يصبح شاعرا، فكتبت شعرا فيمن أحبهم، مثل جمال عبدالناصر وعبدالحليم حافظ، لكنها محاولات بائسة أو فاشلة، لم أعد إليها مرة أخرى.
كان الدكتور بهاء هو الصورة المثالية للأستاذ الجامعى، لم يبخل بعلمه على أحد، ومتفانيا فى عمله، فقد تأخذ قصيدة واحدة قوامها عدة أبيات بضع محاضرات كل محاضرة مدتها ساعتان، ولم أره مرة واحدة اعتذر عن عدم الحضور وهو الذى يأتى من الإسكندرية، ومن حبه لعمله قد ينفق عليه من جيبه، يقنعك ولا يصادر رأيك المغاير له، كما أنه رجل بشوش، فلم أره غاضبا قط، متواضعا فأحيانا كنا نستقل المترو معا، ونتحدث طوال هذه الرحلة من الجامعة إلى محطة رمسيس. ومن أقرب الدكاترة إلى قلوبنا، ولهذا كانت محاضراته تغص بالطلبة، يعطى كل ذى حق حقه، فما حصلت على درجة سواء امتياز أو مقبول إلا كنت أستحقها بالفعل. بفضله أحببت كلية الآداب، وأحببت قسم اللغة العربية، وربما لا أبالغ إذا قلت إنه انتشلنى من الضياع؛ إذ كان أول أستاذ أراه فى الكلية وأحضر له، فكان انطباعى عن القسم رائعا. ولم تنقطع علاقتى به مذ كنت طالبا بالجامعة إلى أن عملت بالصحافة واستقرت بى الحال فى الأهرام الآن. أساتذة آداب حلوان بقلم:حسين السيد