الآباء وتربية الأبناء
الإمام الجوينى نموذجا
يحرص كثير من الآباء على الاهتمام بتربية أبنائهم تربية سليمة، فيعملون بجدٍّ لتوفير حياة كريمة، حياة خالية من الشقاء والمتاعب والعوز، يتمنون أن يكون أبناؤهم أفضل منهم حالا، ويسعون لتأمين مستقبلهم، وفى سبيل تحقيق هذا لا يهتم أغلبيتهم بمصدر رزقهم، هل هو حلال أم فيه شبهة من الحرام. سيعلنون بكل تأكيد أنه حلالٌ حلالٌ، ونسوا أو تناسوا أن للحلال شروطا، منها إتقان العمل وتأديته على أكمل وجه، وأن تتناسب القيمة المادية مع ما بُذِل من جهدٍ، فأنت ترى الآن أن كثيرا من الصنايعية يبالغون فى أجورهم، فقد يستغرق عمل الواحد منهم خمس دقائق أو أكثر بقليل ثم يطلب مبلغا كبيرا لا يوازى مقدار تعبه. وترى أيضا أسعار الدكاترة من حيث الكشوفات والإعادة وإجراء العمليات مبالغ فلكية، لا يقدر على ثمنها الرجل البسيط، وكل هذا مُبالغٌ فيه، وسيسألون عنه يوم القيامة، ولا يختلف عنهما المدرس الذى يعطى دروسا بالحصة رغم أنه لا يشرح فى المدرسة كشرحه فى الدروس الخصوصية، وترى كذلك المحال التجارية والصيدليات؛ حيث تجد التفاوت فى الأسعار بين صيدلية وأخرى، وبين دكان وآخر، رغم أن السلعة هى هى نفسها، وقِسْ على هذا باقى المهن ومختلف الأنشطة التجارية.
فحياتنا قائمة على الغش والخداع والاحتيال والتدليس والتزوير، مع أننا نعيش فى دولة إسلامية، دولة تتخذ الإسلام دينا لها، وتؤمن بتعاليم القرآن الكريم، وتؤمن بأننا سنقف بين يدى الله يوم القيامة، وسيحاسبنا على كل ما اقترفناه من آثام وذنوب، يقول تعالى: “وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا”، ومع أننا نعلم كل هذا لكننا لا نتبع التعاليم ونحرص على مخالفتها، ويستوى فى هذا المتعلم وغير المتعلم، الكبير والصغير، المتدين وغير المتدين.
وكنت أقرأ سيرة إمام الحرمين الجوينى، ورأيت أن تربية والده قد كانت العامل الأكبر فى أن يسلك المسلك الذى سلكه من حيث التبحر فى العلوم الإسلامية، وكم تمنيت لو أننا نشَّأنا أطفالنا على مثل هذا، واتخذنا هذا الرجل قدوة ونموذجا لنا.
أقول لا غرو فى أن يتبحر الإمام فى العلوم الإسلامية، ويبلغ شأوا عظيما، فقد نشأ فى بيت علم ودين، فالوالد كان فقيها شافعيا، يحرص على نشر العلم فى بلدته حتى لقِّب بركن الإسلام، ومن حبه للعلم أنه كثيرا ما كان يقول فى دعاء قنوت الصبح: “اللهم لا تعقنا عن العلم بعائق، ولا تمنعنا عنه بمانع”. كما أن هذا الوالد كان حريصا على عدم الوقوع فى الشبهات، ومن ذلك أنه ما كان يستند فى داره المملوكة له إلى الجدار المشترك بينه وبين جيرانه، ولا يدق فيه وتدا. وكان يحتاط فى أداء الزكاة حتى إنه كان يؤديها مرتين فى السنة إما دفعا للنسيان أو أداءها إلى غير المستحق، كما جاء فى الترجمة التى عقدها له تاج الدين السبكى فى كتابه “طبقات الشافعية الكبرى” فى الجزء الخامس.
ومن ورعه أنه، رحمه الله، قد شرع فى تأليف كتاب سماه “المحيط”، ولم يتقيد فيه بالمذهب الشافعى، فلم يكن منحازا لأى مذهب من المذاهب، وأطْلع الإمام أبا بكر البيقهى، صاحب دلائل النبوة والسنن الكبرى، على ما أنجزه من الكتاب، وكان قد انتهى من ثلاثة أجزاء، فانتقد البيهقى عليه أوهاما حديثية، ولا يستطيع أن يتبينها إلا من يتقن صناعة المحدثين، فما كان منه إلا أن عزم على عدم المضى فى استكمال مؤلفه، ودعا للبيهقى وشكره.
ومن ورعه أيضا أن أباه اكتسب من عمل يده مالا خالصا من الشبهة، اتصل به إلى والدته، فلما ولدته له حرص على ألا يطعمه ما فيه شبهة، فلم يمازج باطنه إلا الحلال الخالص، ويُحْكَى أن ابنه الإمام الجوينى تلجلج مرة فى مجلس مناظرة، فقيل له يا إمام، ما هذا الذى لم يعهد منك؟
فقال: ما أرأها إلا آثار بقايا المصَّة؟
قيل: وما نبأ هذه المصَّة؟
قال: إن أمى اشتغلت فى طعام تطبخه لأبى، وأنا رضيع، فبكيت وكانت عندنا جارية مرضعة لجيراننا، فأرضعتنى مصة أو مصتين، ودخل والدى، فأنكر ذلك، وقال: هذه الجارية ليست ملكا لنا، وليس لها أن تتصرف فى لبنها، وأصحابها لم يأذنوا فى ذلك، فقلبنى وجعلنى أتقيأ حتى لم يدع فى باطنى شيئا إلا أخرجه، وهذه اللجلجة من بقايا تلك الآثار.
فانظر أيها القارئ إلى هذا الرجل كيف يحاسب نفسه على الصغيرة قبل الكبيرة، فلم يتهاون فى أمرٍ هين لن يُسأل عليه، لكنها الأمانة التى ارتضاها لنفسه، وقال:”يسهل علىَّ أن يموت، ولا يفسد طبعه بشرب لبن أمه”، وهذا يذكرنا بما فعله أبو بكر الصديق رضى الله عنه عندما أدخل يده فقاء كل شىء فى بطنه.
أما الإمام الجوينى فهو عبدالملك بن عبدالله بن يوسف بن محمد بن عبدالله بن حيُّويَة، وكنيته أبو المعالى نظرا لأن الدين علا شأنه على يديه، ولقبه إمام الحرمين لمجاورته مكة المكرمة مدة أربع سنوات للتدريس والإفتاء وكان إمام الناس فى الحرمين الشريفين، وأيضا يعرف بضياء الدين لقدرته إلى إنارة الطريق للدفاع عن العقيدة، وأطلق عليه بعض العلماء لقبا ثالثا هو فخر الإسلام لأنه فخر للإسلام ولا شك علما وإنتاجا وتحصيلا وتربية. وينسب إلى جُوَيْن، بضم الجيم وفتح الواو وسكون الياء، وهى بلدة من بلاد إيران حاليا، وإلى نيسابور كذلك لأنه ولد بها سنة 419 هـ، وتوفى عام 478 هـ ولم يكمل الستين عاما.
اشتغل بعلم الكلام متبعا طريقة الأشاعرة، ومذهبه الفقهى هو المذهب الشافعى، لهذا تجد سيرته فى طبقات الشافعية ولا سيما عند تاج الدين السبكى وجمال الدين عبدالرحيم الأسنوى، وفى أخريات أيامه اعتزل علم الكلام وفضَّل طريقة السلف، وقد أعلن ذلك صراحة، حيث أورد الذهبى فى “سير أعلام النبلاء” أن “أبا الحسن القيروانى قال: سمعت أبا المعالى اليوم يقول: يا أصحابنا: لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بى ما بلغ ما اشتغلت به” وقال: “اشهدوا على أنى رجعت عن كل مقالة يخالف فيها السلف وإنى أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور”، رغم محاولة الإمام السبكى تأويل هذا الكلام، وزعم أن المراد هو إنزال المذاهب كلها فى مسألة النظر والاعتبار، لا يتعصب لواحد منها دون آخر.
بقلم: حسين السيد