تساؤلات شاعر

nagah hegazy
nagah hegazy
تساؤلات شاعر م.غادة شمس
تساؤلات شاعر
عندما تتلاحق الأحداث من اضطرابات و حروب و ظروف اقتصادية طاحنة حولنا نجد أنفسنا نعيد التفكير فى أمور اعتدناها و فى مدى جدوى الاستمرار فيها و تمتد لتشمل أفكارنا و أفعالنا وحتى ما نمارسه كمهنة أو عمل أو نشاط . و تجد المثقفين من المفكرين و الأدباء و الشعراء هم الأكثر حساسية فى ردة الفعل لإحساسهم بأن صوتهم لا يجد صداه عند المؤثرين فى صنع القرار و تشكيل الوعى و لا يحرك ساكنا لدى جمهور تراجعت اهتماماته الثقافية فى ظل حمى انتشار تريندات وسائل التواصل الاجتماعى التى لا تميز الغث من الثمين و لذا قد يتساءلون عن وضع و مستقبل ما يقدمونه من فكر وفنون و استقبال الجمهور له فى ظل تراجع الثقافة بوجه عام عما كانت عليه منذ نحو عقدين من الزمن أو ربما أكثر .ومنذ عدة أيام أثار الشاعر محمود مفلح على صفحته زوبعة من الأسئلة بين قرائه عن الشعرو الشعراء ليعيد حركة المياه الراكدة لسفينة الشعر لكى تبحر من جديد .و الشاعر محمود مفلح هو شاعر فلسطينى من مواليد 1943 درس فى كلية الأداب قسم اللغة العربية بدمشق و قضى جزءا من طفولته فى المخيمات الفلسطينية بسوريا و منذ عدة سنوات انتقل للعيش بالقاهرة و صدر له عدة دواوين شعرية .ولعل اللافت للاهتمام أن الأسئلة التى طرحها على القراء هى صميم التساؤلات عند المهتمين بالشعر والتى يبحثون عن إجاباتها لدى الشعراء, فتبادل الطرفان الأدوار ودار هذا الحوار الافتراضي ليجد عنده قرائه إجاباته الشافية التى يبحث عنها .

لماذا نكتب الشعر ونقرأه؟

نكتب الشعر كى لا يموت صوتنا الداخلى و يختنق صداه وسط زحام الحياة فنَنسي و نُنسي.
و نقرأ الشعر كى نجدد صلتنا بمشاعرنا و نعرف كيف يفكر و يشعر الأخرون تجاه مختلف المواقف وأحداث الحياة فنتأكد أننا ما زلنا أحياء حيث نجد راحة و سلوى فى قواسمنا الإنسانية و الشعورية و الفكرية المشتركة .

هل الشعر ضرورة في حياتنا ؟ وهل له أولوية فعلا ؟ وهل يؤثر في هذا الجيل وفي هذا الزمن تحديدا

 ربما لم يعد الشعر يمثل أولوية عند البعض و لكنه لا يزال مهما فهو صوت يريد أن تسمع بصمته و هو بالتأكيد شاهد على عصره .و لكل جيل لغته و أولوياته و تفضيلاته الإبداعية و الشعرية .و هذا الجيل أصبح له لغات متعددة فى الإبداع آخذة فى التطور بشكل سريع عن شكلها الكلاسيكية كالصورة و السينما و الموسيقى و منصات التواصل الاجتماعى و تطبيقات الذكاء الاصطناعى التى تساعد المبدعين فى إنجاز أعمالهم ..فلم تعد اللغة الإبداعية قاصرة على اللغة المكتوبة أو على الشعرو قد تمخض عن ذلك تجارب شعرية جديدة عابرة و مازجة للأجناس الأدبية التقليدية ومتأثرة بالتكنولوجيا الحديثة و بتطور اللغة و استخدام مفردات جديدة و حداثية.

ماهو الشعر الذي يستحق أن يقرأ. ويروج له شعر القيم أم شعر الجمال؟

 ما يستحق أن يكتب و يقرأ هو الشعر الجميل المؤثر فى الروح بغض النظر عن كونه يتحدث عن الجمال أو عن القيم .ولكل زمن أولوياته الأيديولوجية و لكل مكان خصائصه البيئية و كلتاهما تشكل عقول ووجدان مبدعيه و تؤثر فى اختياراتهم ؛ بينما يظل الشعر ينبع من مكان قصى داخل روح الشاعر التى تعيش تلك المؤثرات ، وتظل الدوافع الذاتية الانفعالية سواء عاطفية على اختلافها و تباينها أو فكرية مستخلصة من تجارب الحياة و المعرفة التراكمية هى محرك القصيدة . ونحتاج كقراء أن نرى الشعرو نفهمه من زوايا جديدة ليكون أكثر إثراء ، ليست زوايا لغوية وبلاغية فقط بل زوايا أكثر شمولا وكذلك أكثر تفصيلا : فلسفية و إنسانية واجتماعية و فنية و تشكيلية و شعورية. فالشعر انعكاس انفعالى صادق للإحساس بالحياة و معانيها و قيمها وواقعها و فى التعبيرعنها قد يكون مبهجا أو مظلما .

هل نتهم كل من لاينفعل بالشعر الجميل بأنه متبلد الإحساس. وفقير الذوق السليم؟

 من لا يقرأ الشعر ليس بالضرورة متبلد المشاعر و لكنه غالبا لا طاقة له على قراءة نص مطول يحتاج إلى تأويل بينما قد تكون سماته الشخصية العملية و المباشرة و تفضيل إيقاع الفعل السريع الذى يواكب العصر.و ليس القول . كما أنه قد لا يتمتع بملكات لغوية قوية تساعده على فهم المعانى و دلالات الألفاظ و تذوق بلاغتها الأمر الذى يصنف ضمن القدرات و المهارات الشخصية الفردية . ورغم ذلك يفوته الكثير لإن اللغة الشعرية تفتح أبواب الحدس للقارىء على مصراعيها الأمر الذى يقوده لفرضيات و تأويلات مفتوحة حول النص و تولد لدي القارىء العديد من الأفكارالإبداعية .و لا نستطيع أن نغفل أن التعليم الجيد الذى يهتم باللغة الأم ويشجع القراءة بها و يعمل على إذكاء الثقافة العامة و اللغوية يقع عليه دور فى تطوير الذائقة الشعرية .

هل نحترم تجارب الشعراء الإبداعية حتى ولو صدمت أذواقنا. وكسرت معاييرنا الأخلاقية ومقاييس الفن في نظرنا؟

الحكم على تجارب الشعراء الآخرين الصادمة لأذواقنا خاضع لنضجنا الشخصى و قدرتنا على استيعاب و تقبل الاختلاف و الاستفادة منه ودراسته . قد تكون هناك معايير أكاديمية واضحة يتم تقييم تلك النصوص من خلالها منها اللغة والصور و البلاغة إلا أن الشعر فى أساسه فن لا يمكن أن يخضع نقده تماما للحيادية العقلية لإن الجزء الأكبر من تذوق القصيدة هو الانفعال الشعورى بها و ذلك شىء فردى يختلف من شخص لأخر. فإذا لم ننفصل شعوريا و قيميا و لو جزئيا عن التجارب الإبداعية المختلفة عنا التى تكسر معاييرنا الأخلاقية أو مقاييس الفن من وجهة نظرنا و ننظر إليها بزاوية جمالية مختلفة فقد لا نستطيع أن نتقبل تلك النصوص نفسيا لإن النقد لأى نص إبداعى عملية تتمازج فيها عدة عوامل منها العقلى المنهجى والشعورى و القيمى والجمالى.

هل يصلح الشعر أن يكون رساليا؟ بمعنى هل يستطيع أن يحمل رسالة؟ ومامدى قدرته على حملها؟
ألايكون ذلك على حساب التجديد والإبداع والإدهاش والتجاوز؟؟

اختيار الرسالية مقترن بفلسفة الشاعر الخاصة و غرضه الشعرى ومدى ولائه له و كيفية تقديمه لهذا الغرض، لذا هى مرتبطة باختيار الشاعر لها كأساس فى القصيدة و بقدرته اللغوية على صياغتها بأسلوب فنى متوارى و فى أثناء تلك العملية عليه الانفصال عن شعوره لحظيا و ملاحظة تكوين شعور المتلقى المتولد من تأثير الكلمات و الصور الشعرية و عليه التركيز الحاد على الإمساك بدفة التأثير بمهارة و نجاح.
أما كون الرسالية تحجم الإبداع و الإدهاش فهذا يعتمد على مدى خصوبة خيال الشاعر وتفوق مهاراته الأسلوبية .

هل نطالب الشاعر أن يتوقف إذا شعر أن نبعه قد جف وأنه بدا يستنقع ويكتفي بما أنجز؟

توقف الشاعر عندما يجف نبعه أمر مرهون بإدراكه لذلك و خطورة استنقاعه على تاريخه و هو أمر يقرره الشاعر وحده .و يحتاج إما أن يواجه نفسه بذلك عندما يلمسه فى ردود أفعال من يثق فيهم فيقيم موقفه
و يتوقف مكتفيا بما أنجز ، أو أن يخوض تحديا مع نفسه و ينتفض ليعيش تجربة إنسانية جديدة قد تستلزم وقتا بعيدا عن الشعر ولكنها تفيض عليه بمائها من جديد . ويبقى هو صاحب الكلمة الأخيرة فى كيف يريد أن يظل فى ذاكرة الديوان و الجمهور.

 هل الشعر ترف وفائض عن الحاجة؟

 قد يبدو للبعض أن الشعر ترفا فى وسط الأزمات الطاحنة التى نعيشها و لكن الأزمات هى التى تفجر داخلنا المشاعر المتباينة و المتناقضة و المتشابكة القوية و التى هى قوام الشعر و التى قد لا نجد سبيلا لفهمها و لا وقتا للتفكير فيها وهضمها فى حينها ، إلا أنها تمتزج بنا و تظل داخلنا تقرع على أبوابنا كى نفتح لها فتنطلق معبرة عن نفسها و معلنة عن رغبتها فى الخروج للنوروالفضاء الشعرى و لذا قد يتحول الشعر إلى حال مؤجلة حتى يستحكم إلحاح الشعور الذى فجره للتعبير عن نفسه و ليس بسبب أنه ترفاً. والوطن العربى يعج بشعراء عظام كتبوا عن الوطن و التحرر من الاستعمار أمثال محمود درويش و أبو القاسم الشابى و غيرهم . و ما زال هناك شعراء حتى يومنا يكتبون مثل شعراء غزة الذين كتبوا تحت القصف قصائد أرخت لتاريخ إنسانى لم يكتب بعد .

 هل كثرة الشعراء في زماننا.ظاهرة صحية أم إفلاس حضاري؟
هل كثرة جمهور الشاعر دليل تفوقه وتفرده أم أن هناك شعراء كبارا بلاجمهور؟

لا بأس من وجود شعراء كثيرين على الساحة و لكن البقاء للأكثر إبداعا و أصالة .
و كثرة الجمهور حول الشاعر ليست معيارا أوحداً يعتد به على جودة إبداعه فكثير من الشعراء لم يحظوا بالشهرة إلا بعد وفاتهم ، و ما أكثر من يتجمهر حول أغانى المهرجانات التى لا تقدم أى قيمة فنية مضافة أو مؤثرة تبقى فى الوجدان و الذاكرة مثلما كان فن القدامى الشامخين.

انتهى الحوار و لم تنته تساؤلات عدة تراود الشعراء و محبى الشعر حول استشراف مستقبله فى خضم عزوف نسبى عنه فى المشهد الثقافى وكذلك من دور النشر مقارنة بالرواية و القصة القصيرة. فهم يعتبرونه فنا نخبويا لا يقبل على قراءته العامة و لا ينتشر إلا من خلال الغناء أو لو اقترن بفن آخر و بخاصة شعر الفصحى .ولكن تبقى الحقيقة و هى أن الشعر الذى هو أقدم الفنون الأدبية كائن حى دوما يتأثر ببيئته و مجريات الأحداث الكبرى فى محيطه و فى العالم منذ نشأته مما جعله يمر بمراحل عديدة غير فيها جلده أكثر من مرة واستجاب لكل تلك التحولات بالتجريب فى الشكل و الغرض و اللغة و الأسلوب فأعاد خلق نفسه ليستمر ويواكب الحياة . و فى رحلة التطورالشعرى سيظل دوما البقاء للأقوى إبداعا وصدقا و الأكثر تأثيرا فى وجدان الناس و فى اللغة .

تساؤلات شاعر

بقلم :م. غادة شمس

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Share This Article
اترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!