ثورة يوليو عبدالناصر والفلاح
منذ أن قام عبدالناصر بثورة 23 يوليو والفلاح لم يغب عن باله، كان كل همه إصلاح حاله، كان على استعداد أن يتخلى عن السلطة بشرط تحقيق الإصلاح الزراعى، استدعى زعيم الوفد مصطفى النحاس الذى كان فى أوروبا وقت اندلاع الثورة، ليستشير رأيه ويترك له شئون الحكم، فاستمع إليه بعد أن وضَّح له محمد نجيب أهداف الثورة التى قامت من أجلها، ومنها قضايا الإصلاح الزراعى والتحول الاجتماعى، فما كان من النحاس إلا أن قال على الفور: لا، لا، لا.
ونظر إليه عبدالناصر حزينا، لقد صدم به ومعه الرفاق، فهذا هو الرجل الذى تمنوا أن يتولى حكم مصر بحكم أنه كان زعيم الأغلبية قبل الثورة، لكنه خيَّب آمالهم، فانصرفوا عنه.
وأمرت الثورة على ماهر بتأليف الحكومة، وذلك لأنه سجن فى أواخر عمله السياسى، كما كان له موقف من المحتل الإنجليزى، وطالب مجلس قيادة الثورة أن تباشر الحكومة العمل لتطبيق الإصلاح الزراعى، ورفض على ماهر فكرة الإصلاح الزراعى، وقال: لا، إن تحديد الملكية مسألة ضد الدستور، وليس ممكنا أبدا تطبيق ذلك.
واقترح على ماهر أن يكون الحد الأقصى للملكية خمسمائة فدان، لكن عبدالناصر كان مصمما على خمسين فدانا، وبعد مناقشات تلو مناقشات وافق على مائتى فدان حدا أقصى.
ولم يكن على ماهر راضيا فى قرارة نفسه عن ذلك؛ إذ عندما طلب منه إدراج قانون الإصلاح الزراعى فى جدول أعمال مجلس الوزراء رفض ذلك القانون.
ويذهب مجلس قيادة الثورة إلى فؤاد سراج الدين على أمل الموافقة على قانون الإصلاح الزراعى، لكنه يرفض القانون ويرفض أى قانون يمس بالمكتسبات التى حققها الإقطاعيون قبل الثورة.
لا شك فى أن عبدالنصر كان مهموما بقضايا الفلاح، ولا غرو فى ذلك، فالفلاح فى ذاك الوقت لم يكن يعيش حياة كريمة، وكان أشد الناس بؤسا ومعاناة، فانظر مثلا إلى ما كتبه “يوسف نحاس” فى دراسته التى كتبها بالفرنسية للحصول على درجة الدكتوراه بفرنسا، وكتبها سنة 1901، وترجمها سنة 1926، وقدمها الشاعر خليل مطران، ولم يتغير حال الفلاح طوال تلك المدة، فيقول مثلا عن بيت الفلاح:”إن هو إلا مصنوع من الطين والتبن، ضيق، يشتد فيه الحر، ولا تستطيع العيلة أن تبيت فيه صيفا، فأهله ينامون أمام بابه، أو فوق سطحه، وهو يكاد يكون خاليا من الأثاث”. وطبعا تعلم أيها القارئ ماذا كان يحدث فى السخرة، تعلم أن الفلاح لم تكن له كرامة، كان يؤخذ من بيته كما لو كان بهيمة، وأفاضت الكتب فى كشف هذه المهازل، ولكن مازلت مع “يوسف نحاس” الذى نقل عن مسيو جيمان الذى رأى الفلاحين رأى العين وهم يشتغلون فى السخرة: “تجد 4000 أو 5000 من الأهالى يحفرون ترعة وما بأيديهم شىء من الأدوات، مصفوفين صفوفا متعددة على امتداد الأرض التى يجب حفرها، فالذين فى الأسفل وسوقهم مغموسة فى الطين إلى الركب يتناول الواحد منهم بكفه كتلة كبيرة من الوحل الأسود المبتل، ثم يناولها إلى جاره، وقد سقط جزء منها، إلى أن تصل إلى آخر شخص يقف فى الأعلى، وتكون كمية الوحل قد أصبحت فى حجم البرتقالة..” وهكذا كان يتم حفر الترع، يحفرون بأيديهم ثم يناولون بعضهم بعضا، جزءا جزءا، إلى أن يكتمل الحفر. أما طريقة جمع العمال والأنفار فكانت تتم بوحشية وامتهان لآدميتهم، ولا ننس الكرباج الوسيلة المحببة لقساة القلوب لإذلال الفلاحين.
وتأكيدا لما دونه “يوسف نحاس” من بؤس الفلاح، كتب اللورد كرومر فى رسالته إلى لندن يصف حال الفلاحين :”إن الفلاحين قوم يعيشون فى أكواخ من الطين، فإذا خرجوا منها خرجوا يكادون يكونون عراة الأجسام، وإذا تبلغوا بشىء من الزاد فليس بغير خبز الذرة والبصل، وذلك لأن قيمة حاصلاتهم الاسمية لا تكاد تكفى لأداء الضرائب ولأن تمسك عليهم حياتهم التعسة” ونص كرومر ورد فى كتاب “تاريخ المسألة المصرية” تأليف تيودور روشتين، وترجمه عبدالحميد العبادى ومحمد بدران.
ولا أريد الزيادة فى شرح شقاء الفلاح بل شقاء الإنسان المصرى قبل ثورة يوليو، صحيح كانت هناك محاولات لإنقاذ الفلاح وجعله مالكا لأرضه، مثل محاولة محمد خطاب التى منيت بالفشل واتهم صاحبها بالجنون، ومحمد خطاب هذا كان عضوا بمجلس النواب، وتقدم بمشروع طلب لتحديد الملكية الزراعية بخمسين فدانا سنة 1945 وتحديدا 25 يونيو، لكن المجلس رفض الطلب جملة وتفصيلا، ومن الجائز أن جمال عبدالناصر قد استلهم فكرة الإصلاح الزراعى وتحديد الملكية تحديدا من محمد خطاب.
ولكى تدرك مدى الظلم والإجحاف الذى كان سائدا فى ذاك العصر، فاقرأ عن الملكيات الكبرى، فمثلا 61 مالكا يملك كل منهم أكثر من 2000 فدان بمجموع ملكيات يصل إلى 277.258 فدانا، و28 مالكا يملك كل منهم أكثر من 1500 فدان إلى 2000 فدان ومجموع ملكياتهم 97.445 فدانا… إلخ، والشعب مطحون مطحون يرسف فى قيد الذل والهوان.
وكان لهذه الطبقة – الملاك الكبار- دور فى الحياة السياسية المصرية، لكنه دور سلبى، دور قائم على الانتهازية والدفاع عن مصالحها، حتى لو كان على حساب الوطن، مثل الخائن “محمد سلطان باشا” والد الست هدى هانم شعرواى، الذى تحالف مع الاحتلال الإنجليزى ضد الثورة العرابية، وكان له الدور الأكبر فى هزيمة المصريين بقيادة أحمد عرابى المصرى الذى كان يعتز بهذا اللقب كما يذكر الدكتور محمد صبرى، وإن أردت دليلا على ذلك فاقرأ كتاب “كبار الملاك والفلاحين فى مصر ١٨٣٧–١٩٥٢” للدكتور رءوف عباس والدكتور عاصم الدسوقى، ولعب بعض كبار الأعيان أمثال محمد سلطان باشا، وأحمد بك عبد الغفار (عُمدة تلا)، والسيد الفقي (عُمدة كمشيش) دورا بارزا في الخيانة التى أدت إلى هزيمة التل الكبير (١٣ سبتمبر)، فقد صاحب هؤلاء القوات البريطانية عند تقدمها من جهة قناة السويس، واتصلوا ببعض كبار الضباط وأفهموهم أن الإنجليز حضروا إلى مصر بأمر السلطان لتأييد سلطة الخديو، وتوعدوهم بالويل إذا لم يساعدوا الغزاة على الظفر بالجيش المصرى، ووعدوا مَن يتعامل معهم بالمناصب والرتب الرفيعة، فاستجاب لهم بعض الخونة من ضعاف النفوس، ومكنوا الأعداء من تحقيق نصر رخيص”. وبهذا يتضح دور الملاك فى تخريب الوطن، فلا يهم، المهم ألا تمس حقوقهم، بل الخير لهم فى التعاون مع المحتل لتحقيق مكاسب أكبر، و”بذلك يتضح أن كثيرا من كبار الأعيان بادروا بطعن الثورة العرابية فى ظهرها”. وطبعا، كان يستعان بهم فى الوزرات والمجالس النيابية، وبعض الوزارات كانت تتألف بالكامل منهم، ويذكر صاحبا “كبار الملاك والفلاحين فى مصر” بأن أعلى نسبة لهم كانت فى وزارة محمد سعيد ( ٢٠/ ٥ / ١٩١٩م–١٥ / ١١ / ١٩١٩م)، حيث بلغت ١٠٠٪، وهى الوزارة التي عاصرت مراحل العنف فى ثورة ١٩١٩م وبداية تصفيتها.
دافع عبدالناصر بحرارة عن قضية الفلاح، وكانت أهم مطلب طالب به، قابل مصطفى النحاس وفؤاد سراج الدين وعلى ماهر لتحديد الملكية الزراعية، لكنهم خذلوه وخذلته الأحزاب القائمة على الفساد والرشوة والمحسوبية، فقرر أن يفعِّل قانون الإصلاح بنفسه، فألغى الأحزاب، وتولى سلطة الحكم لنصرة الفلاح المصرى المضطهد.
وارد أن تكون ثمة أخطاء فى التنفيذ لكن لا يمنع هذا من أن عبدالناصر كان يريد أن يسمو بالفلاح، وأن يرفع رأسه فقد مضى عهد الاستعباد والطغيان، وأن آلاف الأسر المصرية استفادت من هذا القانون، ولم يكتب عبدالناصر قيراطا واحدا باسمه أو باسم أسرته، فقد عاش شريفا ومات شريفا.
ويأتى شاب أو شابة فى الآونة الأخيرة ليحكم على زعيم وطنى مخلص مثل عبدالناصر بالفساد والخيانة والديكتاتورية والظلم والكفر.. لكنه معذور فى ذلك؛ فلم يشعر بما شعر به المصريون فى عهد عبدالناصر من العزة والفخار، ومن سوء حظه أنه لم يرَ القاهرة فى عصرها الذهبى وقد كانت عاصمة العالم الثالث، ومأوى كل أحرار العالم، ولم يسمع عن جده كيف كان يعمل بالسخرة، وكيف يساق مثل سوق البهائم، أو كيف كان يعيش فى كوخ من الطين، أو كيف يخدم أسياده، أو لم يسمع عن ضرب الباشا لجده بالكرباج…
بقلم .حسين السيد