حافظ محمود يكشف سرا عن مى زيادة
قليلة هى المصادر التى حدثتنا عن السبب الحقيقى لرحيل إلياس زيادة والد الآنسة مى زيادة من لبنان إلى مصر، لكن قرأت فى الأيام الماضية للصحفى الكبير حافظ محمود، أن هذا يرجع إلى أن شابا من شباب بلدتها بلبنان قد أخلف وعده لها بالزواج، وكانت تحبه حب الطفولة، فخشى عليها والدها من أن قلبها الصغير لا يتحمل مثل هذه الصدمة، فجاء بها إلى مصر ليجعلها تنسى هذا الشاب، وقد أشار حافظ محمود إلى أن هذا كان سرا لم يتعرض له كل الذين كتبوا الكتب والمقالات عن حياة مى.
وهذا السر الذى اكتشفه حافظ محمود ليدعونا إلى العجب والدهشة؛ إذ كيف اكتشف هذا السر وقد أخطأ هو فى تاريخَىْ ولادتها ووفاتها؛ حيث قال:”وقد أقامت تعانى فى القهر حتى ماتت مهجورة منسية فى سنة 1949م بعد أن كانت حديث الناس منذ ولدت فى سنة 1898م”، والمعلوم أن ميا ولدت فى 11 فبراير عام 1886، وتوفيت 19 أكتوبر سنة 1941 عن خمسة وخمسين عاما تقريبا.
ومع هذا، أجد نفسى أميل إلى ما ذهب إليه شيخ الصحفيين حافظ محمود وهو من الصحفيين الأوائل الذين أسسوا نقابة الصحفيين، وكان العضو رقم واحد بها، وربما تكون هذه الحادثة هى التى أثرت فى عقل مى زيادة ونفسيتها؛ حيث إنها لم ترتح إلى فكرة الزواج، ونفرت منها نفورا تاما، وأبدت الرغبة فى أن تعيش حرة طليقة، لا عليها من قيود أو التزامات، ربما يكون هذا صحيحا.
كما أنى أستبعد أن وفاة جبران أثرت فى صحتها وتوازنها وتغير صفو حياتها كما ذهب بعض من أرخوا وتعرضوا لسيرة حياتها كفتحى رضوان مثلا فى كتابه “عصر ورجال”، إنما ما أراه صحيحا هو تأثرها بوفاة أقرب الناس إليها وهو والدها إلياس زيادة؛ حيث توفى عام 1929 وكان السند وحائط الصد الأول والداعم لها، ولم تفق من صدمة الوالد حتى تلقت صدمة أخرى هى وفاة أمها فى مارس 1932، فكانت وفاتها الشوكة التى قصمت ظهرها، ولا شك أن أى امرأة بمثل هذه الحالة، من فقدان الأب والأم معا، وليس لها أخ أو أخت، يجعلها تعانى فى حياتها، فالوحدة ألم مرير لا يكابده إلا من ذاق الفقدان، وكم رأيت فى حياتى من رجال فقدوا آباءهم وأمهاتهم وقد أصابتهم الأمراض النفسية، ومنهم من تغلب عليها وعاش سليما ومنهم من استسلم لها وعانى فى حياته.
ورغم هذا، فإن ميًّا تعرضت لمؤامرة من أقاربها، وأدخلوها مستشفى الأمراض النفسية “العصفورية”، وقالت عن هذا: “باسم الحياة ألقانى الأقارب فى دار المجانين.. أحتضر على مهل وأموت شايئا فشيئا”.
لا أصدق أن حبا نشأ بين مى وجبران، فلم يكن جبران يهتم بالحب، وإلا فما المانع من أن يطلب يدها للزواج وهما على ديانة واحدة وأديبان ومن بلد واحد، ولم يكن ينقص مى المال، ما المانع إذن فى عدم زواجهما وقد استمرت رسائلهما إلى عقدين تقريبا؟ وأعتقد أن رسائل جبران إلى مى ما هى إلا تطهير لنفسه من الآثام التى وقع بها، فقد طارح أكثر من سيدة الغرام، وأراد أن يحافظ على صورته أمام مى، فلم يكن بالبرىء الخامل الذى يجهل النساء، وإنما له علاقات متعددة مع أكثر من امرأة، فكان مع مى رجلا آخر غير الرجل الذى يعيشه، كما أن مى لامته فى روايته “الأجنحة المتكسرة”، وقالت له فى رسالة أرسلتها إليه فى 12 مايو 1912: “إننا لا نتفق فى موضوع الزواج يا جبران.. وهل يصح لكل امرأة لم تجد فى الزواج السعادة التى حلمت بها، وهى فتاة أن تختار لها صديقا غير زوجها، وأن تجتمع بذلك على غير معرفة من أهلها، حتى إن كان القصد من اجتماعها الصلاة عند فتى الأجيال المصلوب”.
كما أنى لا أصدق ما كتبه الأديب واسينى الأعرج من أن ميا كانت تحب ابن عمها جوزيف زيادة، ولى وقفة مع كتابه “ليالى إيزيس كوبيا”، ولا أصدق كل ما رواه واسينى عن علاقة مى بالأدباء المصريين.
مى زيادة حالة فريدة، قلما يجود بها الدهر، وستظل تشغل بال الأدباء والمفكرين والقراء أمدا طويلا بل تلهمهم، ولم تنل أديبة حظا من البحث والدراسة والكتابة مثل ما نالته مى، وإلا فقل لى مَنْ مِنَ الأديبات من كُتب عنها مثل مى، كتب عنها العقاد وطه حسين والرافعى ومنصور فهمى وسلامة موسى وغيرهم وغيرهم، ومع هذا لم نوفها حقها. كانت خطيبة وشاعرة وكاتبة ومترجمة تتقن العربية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية.. كانت كل شىء، كما لها بصمات فى الأدب العربى، وخاصة فى فن الرسائل؛ حيث إنها من أعذب ما يكون.
بقلم: حسين السيد