خان الخليلى مصر والجزيرة العربية
هل تعلم عزيزى القارئ أن مصر عندما أنشأت خان الخليلى كان بدافع التصدق على فقراء مكة، بمعدل رغيفين فى اليوم، وأن مصر لم تترك بلاد الحجاز مرة واحدة، وأنها لم تمُنَّ عليهم بما قدمته إليهم، وأنها استمرت ترعاهم منذ عهد المماليك أو قبلها إلى منتصف القرن العشرين؟!
يعود الفضل فى إنشاء خان الخليلى إلى الأمير جهاركس الخليلى، وكان هذا الأمير، يعرف أيضا باسم “جركس الخليلى”، يشغل منصب “أمير أخور” السلطان، أى المشرف على اصطبلات خيل السلطان، والخيل فى ذاك الزمان توازى الذخيرة الآن، وفى “السلوك لمعرفة دول الملوك” للمقريزى، طبعة قصور الثقافة، أنه ساق ماء النيل إلى الميدان تحت القلعة، وصبَّ فى الحوض الذى على بابه بالرميلة، فعم النفع به سكان تلك الجهات.
كما شغل هذا الأمير منصبا خطيرا فى دولة المماليك؛ إذ عيَّنه الظاهر برقوق سنة 783 هـ مشير الدولة، وهذه الوظيفة تهتم بمراقبة أعمال الوزير المالية أو مراجعته؛ إذ تعنى مشير المستشارَ أو الناصح الذى يؤخذ رأيه، لكن توسعت سلطة المشير وتفحلت، لهذا أمر السلطان برقوق بالحد من سلطتها، فقرر “ألا يتصرف فى شىء إلا بعد مراجعته”.
وكان جركس مخلصا كل الإخلاص لسلطانه برقوق، فأراد أن ينشئ خانا بالقرب من مسجده، والخان هو مكان يشغله جماعة من التجار، ولم يقف بينه وبين هذا الإنشاء سوى قبور الخلفاء الفاطميين، فأخذ الفتوى من القاضى شمس الدين محمد بن أحمد القليجى بهدم هذه القبور بحجة أن الفاطميين كفار رفضة، ويقول المقريزى فى “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار” عند باب “الخانات والفنادق”: “وأخرج منها عظام الأموات فى المزابل على الحمير وألقاها بكيمان البرقية (مقلب قمامة)، هوانًا بها، فإنه كان يلوذ به شمس الدين محمد بن أحمد القليجى، وقال له إن هذه عظام الفاطميين، وكانوا كفارا رفضة”. فهدم أو نبش جركس التربةَ المعزية، وهى التربة التى دفن فيها المعز لدين الله الفاطمى أباه عبيدالله المهدى، وابنه القائم بأمرالله محمد، وجعلها مستقرا لدفن الخلفاء الفاطميين وأولادهم ونسائهم، وتُعرف أيضا باسم تربة الزعفران، ومكان هذه التربة أنشئ خان الخليلى.
وشمس الدين القليجى كان قاضيا حنفيا، وكانت له منزلة عظيمة؛ إذ كان وسيطا بين القضاة والأمراء، وتأخذ الدولة بآرائه فيما يعن لها من الأمور الشرعية، فصار كثير من أمور القضاة لا يقوم به غيره، حتى إن المقريزى يذكر فى خططه أن عبدالرحمن بن خلدون كان يسميه دريد بن الصمة، بمعنى أنه صاحب رأى القضاة، كما أن دريد ابن الصمة كان صاحب رأى هوازن يوم حنين. وللقليجى دار كانت فى أعظم قالب وأحسن هندام وأبهج زى، وذكرها المقريزى فى كتابه تحت باب “ذكر الدور”، وتوفى سنة 797هـ.
نعود إلى جركس الخليلى، فنقول إنه من شدة وفائه للسلطان برقوق، ذهب فى حملة عسكرية لتأديب والى حلب الأمير يلبغا الناصرى الذى سرعان ما بسط نفوذه على سائر بلاد الشام، “وتواترت الأخبار بدخول سائر أمراء الشام والمماليك أليلبغاوية والأشرفية وأمير التركمان وأمير العربان، فى طاعة الناصرى على محاربة السلطان”، فالتقى المعسكران، ودارت معركة هائلة بين الطرفين، وكانت نهاية الأمير جركس الخليلى على يد مملوك من عسكر الناصرى يدعى يلبغا الزينى الأعور، وترك رمته بالعراء عارية مدة، سنة 791 هـ. كما أن السلطان كان يجله ويثق به ثقة مطلقة، حتى إنه زوج ابن أخته من ابنة الأمير جركس بعد وفاته بعشر سنين، وتحديدا سنة 801هـ، فقال المقريزى فى “السلوك”: “وحمل جهاز خديجة بنت الأمير جهاركس الخليلى على ثلاثمائة وستين جملا وعشرين قطارا بغالا إلى دار زوجها الأَمير بيبرس الدوادار ابن أُخت السلطان وبنى عليها الجمعة سابع عشره.”
وورد فى خطط المقريزى: “وترك على الأرض عاريا وسوءته مكشوفة، وقد انتفخ وكان طويلا عريضا إلى أن تمزق وبلى عقوبة من الله تعالى بما هتك من رمم الأئمة وأبنائهم”، أما فى كتابه “السلوك”، فذكر أن امرأة هى من كفنته ودفنته.
ولم يمنع تشفى المقريزى فى مقتل جركس بهذه الطريقة من أن يذكر بعض حسناته، وهو أنه كثير الصدقة، على دراية كبيرة بأمور السياسة، يعمل لآخرته حسابا وأى حساب، فيقول فى خططه: “لقد كان عفا الله عنه عارفا خبيرا بأمر دنياه، كثير الصدقة، ووقف هذا الخان وغيره على عمل خبز يفرّق بمكة على كل فقير، منه فى اليوم رغيفان، فعمل ذلك مدة سنين، ثم لما عظمت الأسعار بمصر وتغيرت نقودها، من سنة ست وثمانمائة، صار يحمل إلى مكة مال، ويفرق بها على الفقراء” .وفى “السلوك”: “وكان مهابًا عارفًا خبرا بالأمور حسن السياسة عاقلا خيرا”.
أما مسألة هدمه قبورالخلفاء الفاطميين فقد يكون راجعا لاعتقاده بأنهم خرجوا من الملة، فاستحقوا أن يستباحوا، وخاصة أنه قد أخذ فتوى من قاض له مكانة كبيرة أباحت له نبش قبورهم، كما أنه أنشأ هذا المشروع لأجل التبرع لفقراء مكة المكرمة وما جاورها، فظن أنه لا إثم عليه إن أخرج هذه العظام من قبورها ودفنها فى مكان آخر، لكن ما يؤخذ عليه هو الطريقة المهينة التى أخرج بها هذه العظام، فكان عليه أن يعاملها بشىء من التوقير وأن يحترم أصحابها وهم مسلمون دافعوا عن الإسلام، وأنشأوا حضارة عظيمة فى مصر والبلاد التى كانت تحت سيطرتهم.
لكن دعك من هذا، وانظر إلى غاية مقصده ونبل هدفه، فقد بنى هذا الخان وجعله هو وغيره وقفا على فقراء مكة، وهو وزير مصرى لا يمثل نفسه بل يمثل الشعب المصرى، ومنذ أن تولت مصر زعامة العالم العربى والإسلامى وهى الأم البارة بأبنائها من سكان الجزيرة العربية، وهى المسئولة عنهم مسئولية تامة، ولم تتخل عنهم، بل كانت دائما فى عونهم، ومساندا لهم، وداعما لهم، ولم تبخل عليهم بشىء، ولم تمُنَّ عليهم إطلاقا، بل كانت تراه فرضا عليها وواجبا دينيا، وهذه هى عظمة شعب لديه حضارة، فلم يقم بالسلب والنهب والخطف، وإنما شعاره: مد يد العون إلى المحتاج من الأمة. وهذا يعنى أن دول الخليج العربى لو ساعدت مصر إلى سنة 2800 م فهذا دين عليها وما وفته أو قضته، فمصر ساعدت هذا الدول لأكثر من ثمانمائة سنة.
ونختم بما أورده المقريزى فى “السلوك” لأحداث سنة 787 هـ، فيقول: “وفى ثامن عشرينه: كسفت الشمس من قبل نصف النهار إلى العصر. وفيه حمل الأمير جركس الخليلى قمحًا كثيرا إلى مكة والمدينة ليعمل منه فى كل يوم. بمكة خمسمائة رغيف وبالمدينة فى كل يوم خمسمائة رغيف تفرق فى السُؤَال ونحوهم من الفقَراء. وألا يقرر منها لأحد راتبا بل يأْخذ من حضر ولا يراعى أحد فى التفرقة فعم النفع بها. ولم يبق بالحرمين من يسأَل عن جوع”.
بقلم:حسين السيد
تغطية مستمرة على مدار الساعة من منصة “غرد بالمصري”:
تابع أحدث الأخبار والتقارير في جميع الأقسام: