خليفة  قتله العشق

حسين السيد

خليفة  قتله العشق
تولى يزيدُ الخلافةَ بعهد من أخيه سليمان بن عبدالملك بعد وفاة الخليفة عمر بن عبدالعزيز سنة 101 هـ، واستمرت خلافته تقريبا أربع سنوات؛ إذ توفى عام 105هـ.
ويزيد هو ابن عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبى سفيان، وأبوه هو عبدالملك بن مروان بن الحكم، والعجيب أن يزيد بن معاوية وعبدالملك بن مروان وُلِدا تقريبا فى سنة واحدة، وهى ست وعشرون للهجرة، وقيل إن يزيد ولد سنة 25 هـ، ما يعنى أنه أكبر بسنة واحدة من عبدالملك، ومع هذا فقد تزوج عبدالملك من ابنة يزيد التى كانت فى عمر أولاده لكونه فى عمر والدها، ولا غرابة فى هذا، فكان ذلك جريا على العادة المتبعة آنذاك، وهى عدم النظر إلى فارق السن بين الزوجين، كما كان لا يهم أن تتزوج المرأة من عدة رجال بعد وفاة الواحد منهم أو طلاقها.
تولى يزيد الخلافة بعد وفاة عمر بن عبدالعزيز الذى ملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا كما يقال، وتطلع الناس إلى أن يسير يزيد سيرة عمر، وأن يتبع نهجه نهج الخلفاء الراشدين، وقد رأى بعينيه كُره عمر للظلم والطغيان والافتراء والفساد وعدم تحميل الناس أى أعباء أخرى بل رأى زهده فى الخلافة نفسها.. فأحبه الناس وبكوه عند وفاته إلا بنو أمية الذين ضاقوا به لتشدده عليهم، فسقوه السم ليتخلصوا منه.
أما يزيد فإنه لم يتحمل تقشف عمر إلا أياما قليلة، فسار على نهجه مدة أربعين يوما فقط، وعدل عن سيرته، وسلك مسلك من قبله من الأمويين، وذكر السيوطى فى كتابه “تاريخ الخلفاء”: “وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما ولى يزيد قال: سيروا بسيرة عمر بن عبد العزيز، فأتى بأربعين شيخا فشهدوا له ما على الخلفاء حساب ولا عذاب”.
وذكر السيوطى أيضا أن ابن الماجشون قال: “لما مات عمر بن عبد العزيز، قال يزيد: والله ما عمر بأحوج إلى الله منى، فأقام أربعين يوما يسير بسيرة عمر بن عبد العزيز، ثم عدل عن ذلك”.
ولا أتوقف عند أعماله أو طريقة حكمه بل أقفز سريعا إلى سبب وفاته، فهذا ما يشغلنى، وأظن – ويرقى هذا الظن إلى حد اليقين- أن موته كان بسبب امرأتين، فقد أحب جارية من الجوارى تدعى حبابة بتخفيف الباء الأولى، واسمها عالية، فاشتراها بأربعة آلاف دينار، فى عهد أخيه سليمان بن عبدالملك، فاستكثر سليمان دفع مبلغ كبير كهذا فى جارية حتى لو كانت بها كل الصفات، وقال: لقد هممت أن أحجر على يزيد. فباعها يزيد فاشتراها رجل من أهل مصر، وانتهى الأمر عند هذا الحد، وحاول يزيد أن يتغلب على عواطفه، فنسيها بعضا من الوقت.
ولما آلت إليه الخلافة بعد وفاة عمر، أرادت امرأته سعدة بنت عبدالله بن عمر بن عثمان بن عفان أن تكون ولاية العهد لابنها، فسألته هل بقى شىء لم يحققه وهو الآن خليفة المسلمين؟ وهو سؤال يحمل فى طياته مكرا ولؤما، فإنها تريد أن تجدد حبه للجارية التى تركها إرضاء لأخيه سليمان، فرد عليها قائلا بحزم: نعم، تنقصنى حبابة. وأمرت سعدة أحد الخدم بشراء حبابة مهما كان ثمنها، فاشترتها بأربعة آلاف دينار، ثم زينتها ولبستها وصنعتها وأجلستها من وراء الستارة، وأرادت سعدة بهذا أن ترضى يزيد حتى يستجيب لرغبتها وتكون ولاية العهد من نصيب ابنها، كما ذكر أبو الفرج الأصفهانى.
وسألت سعدة مرة أخرى يزيد: ماذا بقى لك لم تحققه يا مولاى؟ فأجابها: قلت لك من قبل، حبابة. وهنا قالت سعدة، سمعا وطاعة: حالا ستكون بين يديك يا مولاى. وصفقت مرتين أن أحضروا حبابة، فدخلت الجارية وهى تسير الهوينى على يزيد وهى بكامل زينتها وإشراقتها وأنوثتها، وسرَّ الخليفة أيما سرور، وتركتهما زوجته سعدة، لينعم بمحبوبته، وليخلو لهما الجو، ويعبرا عن أشواقهما. وحظيت سعدة عند يزيد وأكرمها وحباها، كما يذكر الطبرى فى تاريخه.
وهنا لنا وقفة، إن سعدة امرأة يزيد هى من اشترت حبابة بأربعة آلاف دينار، وهى من أهدتها إلى زوجها، ونسأل ألم تشتعل الغيرة فى قلبها وهى ترى شغف زوجها بالجارية إلى درجة الجنون؟ إن أغلب النساء فى مثل هذه المواقف يحاولن إبعاد العشيقات عن أزواجهن، ويصرفن أزواجهن إلى أمور أخرى، لكن سعدة أدركت أن زوجها وقد أصبح الخليفة الآن سيسعى إلى شراء حبابة يوما ما، وسيضمها إلى جواريه، فالأفضل لها أن تأتى حبابة عن طريقها لتحظى بمكانة لديه، فتستطيع أن تجعل ولاية العهد لابنها، وقد روى أبو الفرج فى كتابه “الأغانى” أن يزيد بن عبدالملك كان يقول:”ما تقر عينى بما أوتيت من الخلافة حتى أشترى سلامة جارية مصعب بن الزهرى، وحبابة جارية لاحق المكية”. كما أنها أخبرت الجارية قبل أن تهبها له بمطلبها، وهو أن توطئ لابنها بولاية العهد.
وصحيح أن ليزيد جارية أخرى مغنية هى سلامة القس وأنه كان يحبها أيضا، لكن حبه لحبابة فاق الوصف والخيال، فقد كان يفضلها عليها، وقد مات حسرة على وفاتها.
بلغ عشق يزيد لجاريته مبلغا كبيرا؛ حتى إنه شغل بها بل افتتن بها، وانصرف عن تسيير أمور الدولة، وقضى كل وقته مع حبابة، وعاتبه أخوه مسلمة بن عبدالملك، وحاول أن يبعده عنها، وقال له: “يا أمير المؤمنين، يقف ببابك وفود الناس وأشراف العرب فلا تأذن لهم ولا تخرج إليهم، وأنت قريب بعمر بن عبدالعزيز، وقد علمت طيب ذكره وجميل أثره وحسن سيرته”، وكاد يزيد يلتفت إلى شئون الخلافة، لكن حبابة استوقفته، وسألته عن شروده، فأخبرها بما قاله مسلمة، وبمكر شديد تمكنت حبابة من السيطرة على عقل يزيد وقلبه مرة أخرى، حتى إنه كان يرقص طربا معها ويقول:”لا تطلعونى على أمر من الأمور، أنا فى حبى وعشقى أدور”.
وبينما هما يلهوان ويشربان ويمرحان إذ رماها بحبَّة عنب أو رمان وهى تضحك فوقعت فى فيها، فشرقت بها وماتت على الفور، وحزن عليها يزيد حزنا شديدا، ولم يصدق أنها ماتت بسبب بحبة عنب، إلى درجة أنه أراد أن يحتفظ بجثمانها، فلم يدفنها بل تركها بجواره يقبلها ويلثمها ويكلمها وكأنها مازالت حية، واحتفظ بها مدة ثلاثة أيام حتى نتنت وفاحت ريحتها، وكلمه أهله وعاتبوه فى ذلك، وقالوا له:”اتق الله فى نفسك يا أمير المؤمنين وادفن هذه الجارية، فإنها جيفة، وإكرامها دفنها”، وأخيرا وافق على دفنها، لكن ألمَّ به الشوق من جديد، فقرر نبش قبرها بزعم أنه لم يصلِّ عليها، فنُبشت وأزاحوا عنها التراب، فرأوها قد تحللت أعضاؤها وتفسخت، وتغيرت ملامحها بالمرة، فعاتبوه للمرة الثانية على فعله، فقال:”ما رأيتها قط أحسن منها الساعة”! وعنَّفه أخوه مسلمة على جنونه هذا، ومكث يزيد سبع عشرة ليلة ومات بعدها ودفن بجوارها، وقيل أربعين ليلة.
ومن الغريب أن يزيد مات ولم يزد يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، فقد ولد سنة 71 هـ كما يقول السيوطى، ومات سنة 105 هـ، أى مات وهو فى شرخ شبابه، وهذا بسبب امرأتين، زوجة وجارية.
وهذا ابن كثير يروى فى كتابه “البداية والنهاية” حكاية عشق يزيد لحبابة واستفاض فيها وذلك فى أحداث سنة 105هـ، ورواها أيضا ابن جرير فى كتابه تاريخ الرسل والملوك بالجزء السابع، كما جاءت بالعقد الفريد لابن عبدربه، وكذلك “الأغانى” لأبى الفرج الأصفهانى، وكتاب “العنوان فى الاحتراز من مكائد النسوان” لابن البتنونى تحقيق الدكتور محمد التونجى، كما ذكرها سلامة موسى فى كتابه “الحب فى التاريخ” بعنوان: يزيد وحبابة. والكتب كثيرة تلك التى تعرضت ليزيد بن عبدالملك أو حبابة وهى من أعلام النساء الشهيرات.

خليفة  قتله العشق

 حسين السيد

Share This Article
اترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!