سيناء التي لا تُمس: كيف وأد السيسي خرافة الوطن البديل؟

nagah hegazy
nagah hegazy
سيناء التي لا تُمس: كيف وأد السيسي خرافة الوطن البديل
سيناء التي لا تُمس: كيف وأد السيسي خرافة الوطن البديل؟
مرّة تلو الأخرى تتكرّر على المنطقة خدعة الشعارات الجوفاء. غير أنّ ما يحصل اليوم، في ذروة المأساة الغزّيّة، يتجاوز ما عرفناه سابقاً من فخاخ: مؤامرة تكاد لا تُعلن، تتستّر خلف اسم “الممرّ الإنساني”، وتُحاك خيوطها في غرف مغلقة في تل أبيب وواشنطن، مع شركاء محلّيّين. صفقة العصر تكاد تختزل في صفقة تهجير مليونيّة من غزّة إلى سيناء، ليس فقط لتصفية وجود الفلسطينيّين في أرضهم، بل ربّما لتصفية مصر ذاتها كما نعرفها. ذاك أنّ الفضيحة المركزيّة التي تتكشّف أمامنا هي أنّ “حلّ الدولتين” الذي يتلعثم به الغربيّون والإسرائيليّون والإخوان، قد يكون – في مخطّط بعضهم – “دولة فلسطينيّة” في سيناء مصر نفسها! والحال أنّ وثيقة وزارة الاستخبارات الإسرائيليّة المسرّبة واضحة: إجلاء سكّان غزّة بالكامل إلى “مخيّمات خيام” في شمال سيناء، ثمّ بناء مدن دائمة لهم هناك. والزينة الإضافيّة، هي إنشاء شريط عازل “معقّم” لمنع عودة السكّان. ولأنّ كلّ جريمة كبرى تعتمد توزيع الأدوار وتعاون شركاء من نوع مختلف، فإنّ الإخوان، حلفاء حماس الأيديولوجيّون، يلعبون دورهم في هذه المسرحيّة. فمن جهة، يصرخون في وجه السيسي “افتح المعبر”، وأتبِع أهواء الحشود، وألغِ اتّفاقيّة السلام. وكأنّ هذه المطالب التي تبدو رافضة لإسرائيل، ستسمح بهجرة جماعيّة لا عودة منها. فيما المرشد العامّ محمّد بديع نفسه، في خطابه من مسجد عمرو بن العاص عام 2012، لوّح بأنّه “لا مانع من إقامة مخيّمات للإخوة الفلسطينيّين في سيناء”. هذا هو الوجه الحقيقيّ للإخوان، عندما كانوا في السلطة! وها هو “داني أيالون”، نائب وزير الخارجيّة الإسرائيليّ الأسبق، يصرّح، في الأيّام الأولى للحرب، قائلاً: “على سكّان غزّة إخلاء منازلهم إلى صحراء سيناء… حيث يمكن إقامة مدن خيام مؤقّتة لهم”. وتلك هي الحقيقة الملتهبة: التهجير العلنيّ أو “المواربة الممتنعة”، وخرق اتّفاقيّة كامب ديفيد بتحويل سيناء نفسها إلى وطن بديل. أمّا المخلّص من هذه الفكرة الكارثيّة، الذي يُتّهم اليوم عند الشعبويّين، “بالتواطؤ” مع الأعداء، فهو نفسه من أصدر قراراً، هذه المرّة، يستحقّ احترام التاريخ بكل إجلال. قال فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي بوضوح عبثت به الشعبويّة من قبل: “ترحيل أو تهجير الشعب الفلسطينيّ ظلمٌ لا يمكن أن تشارك مصر فيه”. وحذّر بما يكفي من الوضوح: “لن يشارك المصريّون — بالملايين — في ظلم ترحيل الفلسطينيّين من أرضهم… وسيناء لن تكون منصّة لابتزازنا”. هذا ليس مجرّد رفض “لطيف”، إنّه سدّ منيع أمام مؤامرة تستهدف مصر والفلسطينيّين معاً. لكنّ الرفض الكلاميّ لا يكفي في معارك المصير، وهذا ما أدركه السيسي. فبينما كان الإخوان وأنصارهم يلوكون الشعارات، وحماس تقود غزّة إلى مذبحة كبرى، وإسرائيل تحوّل عمليّة ضبط النفس إلى إبادة حقيقيّة، كان الجيش المصريّ يتحصّن في الميدان، كما لم يفعل عبد الناصر في 1967. أرسلت مصر، منذ اندلاع الحرب، الدبابات والمدرعات في منظر مهيب إلى الشريط الحدوديّ، وكثّفت تواجد قوّاتها البرّيّة والبحريّة. لقد درس السيسي الشعبويّة الناصريّة واضعًا نصب عينيه: أنّ أصوات الحناجر لا تمنع سقوط سيناء كاملة في ستة أيّام. فالجيش المصريّ في 1967 لم يكن مهيّأً لحرب دفاعيّة، ولا قادراً على توقّع مدى الكارثة، وكان المدير العامّ للقوّات المسلّحة عبدالحكيم عامر في ذلك الوقت، كما نعلم، “شاعراً” و”أديباً” متخصّصاً في شرب صحّة عبد الناصر على حساب الجيش بكامله. علاوة على التحصين العسكريّ، هناك التأمين الماديّ: أتمّت مصر حائطاً خرسانيّاً ضخماً (ارتفاع 7 أمتار!) يمتدّ من قرية قوز أبو رعّاد جنوب معبر رفح حتّى ساحل المتوسّط شمالاً، وحفرت خنادق وبركاً مائيّة. لقد اختار السيسي ببساطة أن يضع ماديّاً ما لا يمكن إنكاره: سيناء خطّ أحمر. هذه هي الواقعيّة السياسيّة في مواجهة الشعبويّة: لا شعارات طنّانة، بل خرسانة وفولاذ. والسؤال الأكثر حرجاً: هل وقف من ضغط على مصر من القوى الكبرى؟ وهل تمّت مساومتها على سيادتها؟ الإجابة تتضمّن ما لم تخبرنا به وسائل الإعلام. تقارير عديدة تحدّثت عن “صفقة ماليّة هائلة” عرضها وزير الخارجيّة الأمريكيّ بلينكن على مصر، إذ قيل إنّ الولايات المتّحدة حاولت إغراء القاهرة بمبالغ تصل إلى 150 مليار دولار وإسقاط ديون مصر بالكامل مقابل الموافقة على توطين الفلسطينيّين في سيناء. بل ذهب المخطّط أبعد: يقول سمير فرج، الخبير الاستراتيجيّ المصريّ، إنّ إدارة أمريكيّة سابقة حصلت حتّى على موافقة الرئيس الأسبق مرسي على مقترح مشابه. والفارق؟ السيسي رفض بشكل قاطع كلّ تلك العروض. بلغة أخرى: ماذا تعني المقارنة بين 1967 و2023؟ 
سيناء التي لا تُمس: كيف وأد السيسي خرافة الوطن البديل؟
في 1967، ألقى عبد الناصر خطاباً حماسيّاً أغلق فيه مضائق تيران (سيّان أكان عمليّاً أم استعراضيّاً)، وهلّلت له الجماهير العربيّة في بيروت ودمشق وبغداد، لكنّ الجميع فوجئ بـ “حالة ملوك التهويل” المصريّة حين لم يكن هناك استعداد عسكريّ كافٍ لهذا القرار. كانت الهزيمة الكارثيّة في ستّة أيّام، وتلتها 16 سنة لتحرير سيناء كاملة. أمّا 2023، فانتبهت إليها القيادة المصرية باعتبارها لحظة قرار: مخاطبة شعبويّة تزايد على المأساة في غزّة، أم صمود في وجه مخطّط دوليّ أشمل يستهدف سيناء مصر؟ فاختار السيسي العقلانيّة على طريقته الخاصّة: العمل الميدانيّ وتجاهل الشعارات وتأمين الحدود. المفارقة الأخرى، والتي ينبغي ألاّ نخطئها، أنّ المزايدين على قرار السيسي اليوم هم ذاتهم من قاموا بتخريب أمن سيناء التي يدّعون التباكي عليها. في عهد مرسي، شهدت تلك الفترة تراجعاً في جهود مكافحة الإرهاب في سيناء وانتعاشاً لشبكات تهريب السلاح والمسلحين والأنفاق، ما هدّد أمن الحدود الشرقيّة. أليس مثيراً للسخرية إذن أنّ نفس الجماعة التي أطلقت محمّد بديع ليقول عام 2012 “لا مانع من إقامة مخيّمات للإخوة الفلسطينيّين في سيناء”، هي نفسها من يتّهم السيسي اليوم بإغلاق المعبر وعدم فتح الباب “للعمل الإنسانيّ”؛ الذي قد يتحوّل، بفعل ضغوط تل أبيب ومؤيّدي نتنياهو، إلى تهجير جماعيّ؟ عندما كان الإخوان في السلطة، كبحوا خطابهم ضمن حدود “مراعاة المسؤوليّة الدوليّة وتقديم التنازلات تحت الطاولة”. أمّا بعد خروجهم من السلطة، أطلقوا العنان لشعارات المقاومة دون مواربة، وهذا التناقض هو الدليل الأوضح على تلوّن الشعبويّة بلون مصالح القائمين عليها لا بلون مصالح الشعوب. في المقابل، فإنّ نجاح السيسي في تجنيب مصر الدخول المباشر في الحرب، رغم كلّ الضغوط الدوليّة وكلّ الاستفزازات الإسرائيليّة القاسية؛ أثبت أنّ المقاربة المصريّة الهادئة صائبة؛ فالمعبر ظلّ مفتوحاً للمساعدات الإنسانيّة وإخراج الجرحى، ووساطة مصريّة نشطة جرت من أجل تبادل الأسرى، لكنّ الخطّ الفاصل بين التعاطف الإنسانيّ والتفريط السياديّ ظلّ واضحاً للجميع. لقد أثبتت الأزمة درساً مزدوجاً في فهم المنطقة العربيّة: أنّ الهتاف العالي للمزايدين ليس مقياساً لوطنيّتهم، وأنّ السياسة الواقعيّة قد تنقذ ما تدمّره السياسة الشعبويّة. وتحميل السيسي وزر الكارثة في غزّة يشبه المنطق ذاته الذي كان يبرّئ حماس من مسؤوليّة قراراتها ويلقي باللوم على المصالحة الفلسطينيّة أو على تحريك القضية أو أيّ طرف آخر. والسؤال الذي يبقى، بعيداً عن الاستقطاب الآنيّ: ماذا لو أنّ مصر انساقت وراء الصوت الشعبويّ؟ ماذا لو أنّها فتحت حدودها على مصراعيها أمام المهجّرين، أو خرقت اتّفاقيّة السلام، أو استجابت لصفقة الـ150 مليار؟ ألم تكن لتصبح اليوم هي نفسها رهينة القرار الإسرائيليّ والغربيّ، وتُستخدم كـ”مستودع بشريّ” نهائيّ، وتتحوّل خارطة سكّانها إلى علامة استفهام لا تستطيع أيّ دولة الإجابة عنها؟ في نهاية المطاف، يبقى درس السيسي في هذه المحنة درساً عمليّاً: أنّ الدفاع عن فلسطين لا يكون بإلغاء مصر أو تعريضها للخطر، وأنّ خدمة غزّة لا تكون بتهديم مصر. فخامة الرئيس السيسي؛ في حسابات السياسة، وليس في هتافات الشعبويّين، يجعل حساب الأوطان أكبر من أن تختزل في صرخة “افتح المعبر”… أو في حساب بنكيّ بـ150 مليار دولار!
حفظ الله مصر .. وحفظ الله الرئيس عبدالفتاح السيسي.
 بقلم: أينشتاين السعودية
Share This Article
1 Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!