شراء حمار
كنت مستغرقا فى النوم، والقطار يمشى الهوينى، وأمامى جلس مزارعان، يتحدثان عن حمار بعينه، فاستيقظت على جلبتهما؛ إذ كانا يفكران فى شراء حمار، وظلا يقارنان بين حمير قريتهما، وهذا يتحمس لحمار فلان، والآخر معجب بحمار جاره، ولم يبديا أى اتفاق فى الرأى، ولما رأيتهما مختلفين أشد الاختلاف، أقحمانى فى الحوار، وقالا لى: احكم بيننا أيها الأستاذ. لم أشأ أن أخذلهما، فقلت لهما: قرأت فى كتاب ما أن رجلا كفيفا أراد شراء حمار، وأوصى النخاس، بائع الدواب، بمواصفات يجب توافرها فى هذا الحمار، فقال: “اطلب لى حمارا ليس بالصغير المحتقر، ولا بالكبير المشتهر، إن خلا الطريق تدفق، وإن كثر الزحام ترفق، لا يصدم بى السوارى، ولا يدخلنى تحت البوارى، إن كثر علفه شكر، وإن قللته صبر، وإن ركبته هام، وإن ركبه غيرى نام. فقال له النخاس :اصبر يا عبد الله، فإذا مسخ القاضى حمارا، أصبت حاجتك إن شاء الله تعالى.
فقال الرجلان فى نفس واحد: والله فكرة رائعة، انزل معنا لتشترى لنا هذا الحمار، نريده بهذه المواصفات، أنت أعلمنا.
ثم تذكرت الحمار فى كتاب الحيوان للجاحظ، وقد فضَّل صاحبُ الكلب الحمارَ على الديك، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال:”كل الصيد فى جوف الفرا”، والفرا هو الحمار الوحشى، وقد قاله (ص) فى أبى سفيان بن حرب، أى كأنه فى الناس مثل حمار الوحش فى الصيد، كما ذكر الشيخ عبدالسلام هارون، وقالوا فى المديح لصاحب الرأى:”عُيَير وحده”، ومن ثم يشهد الجاحظ بتفوق الحمار على الديك؛ لأن الحمار إن كان الله قد ضرب به المثل فى الجهل فإن الديك قريب منه الجهل أيضا، فالحمار يستطيع أن يعود إلى بيت صاحبه حتى إن ضل الطريق، لكن الديك لا يمكن أن يعود إلى البيت، بل على صاحبه أو صاحبته أن يبحث عنه، ويقول الجاحظ :”والحمار أجهل الخلق، فليس ينبغى للديك أن يُقضى له بالمعرفة والحمار قد ساواه فى يسير علمه، ثم باينه أن الحمار أحسن هداية. والديك إن سقط على حائط جاره لم يحسن أن يهتدى إلى داره، وإن خرج من باب الدار ضلَّ، وضلاله من أسفل كضلاله من فوق”.
ومن واقع خبرتى مع الحمار، فإنى أتفق تماما مع ما ذهب إليه الجاحظ، فالحمار يذهب إلى الحقل عدة مرات، وبعدها يحفظ الطريق، فما عليك إلا أن تتبعه ليدلك إلى بيت صاحبه، وقد استعمل صناع فيلم “صعيدى رايح جاى” هذه الحيلة، فبعد وفاة العمدة، عبدالله فرغلى، وشيخ البلد، يوسف داوود، استعان الأبناء، هانى رمزى وماجد الكدوانى، بالحمير للوصول إلى المقبرة الأثرية، حتى إن هانى رمزى سأل ماجد الكدوانى: إيه اللى جابك هنا. فقال ماجد: يعنى حمار أبوك كان أذكى من حمار أبوى!
أما الديك، فإنه إن ضل عن بيت صاحبه، لم يستطع العودة إلى هذا البيت حتى لو كان ملاصقا له، وكانت صاحبته تسأل عنه البيوت المجاورة، وللأسف فإنها لا تجده فى الغالب؛ لأن صاحبنا يكون على الحلة مطبوخا!
كما أن الخليفة مروان بن محمد، آخر خلفاء بنى أمية، كان يلقب بمروان الحمار، ولم يكن هذا ذما بل كان مدحا، لصبره على مكاره الحروب، ومواصلته السير بالسير، وفى تاريخ الخلفاء للسيوطى:”ويقال فى المثل: فلان أصبر من حمار فى الحروب؛ فلذلك لقب به. وقيل: لأن العرب تسمى كل مائة سنة حمارا، فلما قارب ملك بنى أمية مائة سنة لقبوا مروان بالحمار لذلك”.
ولا ننسى حمار الحكيم الذى اشتراه من قروى بثلاثين قرشا، وكيف أنه تورط فى شرائه، واحتال ليصعد به إلى غرفته فى الفندق الذى يسكن به…
وللجاحظ أيضا كتاب بعنوان “نوادر معشر المعلمين”، يتندر فيه على المعلمين، وما هم عليه من الغفلة، وسببه أنه رأى معلما حزينا ينشد هذا البيت:
إذا ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار، ولها قصة طريفة تذكرها كتب التراث.
بقلم: حسين السيد