طبع الكتب أو ضياع التراث بعد وفاة المؤلف بعدد معين من السنوات تقوم دور النشر بطباعة أعمال هذا المؤلف أو ذاك، على أساس أنه لن يطالبها أحد بحقوق النشر، وتتغلب هذه الدور فى طبع كتب التراث عن طريق تحقيقها بمحققين آخرين أو حتى بدون تحقيق، أو نشرها برضا أصحابها أو بدون رضاهم.
وهنا الكارثة التى نحن مقبلون عليها، فإن هذه الدور لا تلتزم التزاما كليا بالنص الأصلى، فتكثر الأخطاء النحوية والإملائية واللغوية، وتسقط بعض الكلمات سهوا فى الطبعات الحديثة، ما يؤدى إلى تشويه العمل الأدبى أو التراث الذى خلفه لنا الأجداد، وأمضى فيه المحققون سنوات عمرهم لتحقيقه، وبهذا نكون قد ضيَّعنا تراثنا، ولم نستطع الحفاظ عليه، ولم نسلِّمه إلى الأجيال المقبلة سليما من الأخطاء والتحريف والتزييف، ويأتى جيل لن يتمكن من قراءة هذه الأعمال قراءة تجعله قادرا على فهم الأحكام وضبطها، أو تذوقها واستيعابها.
هكذا نحن بنى الشرق عامة ومصر خاصة، لا نحافظ على تراثنا وأعمالنا، وتنطبق علينا المقولة: يسير الزمان إلى الأمام وتنهض الدول وتتحسن أحوالها، فيما نحن نتحرك إلى الوراء مع فقدان ما حققناه، فقل لى مثلا: هل هناك من هو أفضل من جيل طه حسين والعقاد والمازنى والرافعى والبارودى وأحمد شوقى وحافظ إبراهيم وغيرهم؟ ومع هذا لا نحفظ تراث هؤلاء الآباء حق الحفظ، فى الوقت الذى انتشر فيه العمل الركيك والسوقى والغث.
وللتدليل على ما قلته، سأذكر بعضا مما لاحظته، كنت أقرأة رواية “غادة رشيد” للأديب الكبير واللغوى الفحل على الجارم، طبعة “الدار المصرية اللبنانية”، وتوقفت عند جملة “وأحست بما تحسه الفتاة فى هذا السن”، وقلت لنفسى: لا يمكن أن يقع الجارم فى هذا الخطأ اللغوى، إنه من المحال. ولمَّا كانت عندى طبعة دار المعارف، فقرأتها: “وأحست بما تحسه الفتاة فى هذه السن”، إذن الجملة الصحيحة، ولم يخطئ الجارم، وأن الدار المصرية هى التى أخطأت، وغيَّرت فى النص.
أيضا وجدنا هذا الاختلاف، تقول الدار المصرية: “وكانت تحس كأن سكاكين مثلّمة تحز فى قرارها”، لكن فى دار المعارف:” وكانت تحس كأن سكاكين مثلّمة تحز فى فؤادها”، فالتغيير فى كلمة فؤادها، ودار المعارف أصدق عندى من الدار المصرية؛ لأنها قريبة العهد بالمؤلف، سنة 1960، والدار المصرية 2004. ولا أقول إن طبعة الدار المصرية كلها أخطاء، لكن أقول من أين أتت هذه الأخطاء؟ ولماذا لم تلتزم بالنص الأصلى؟ وهذه الأخطاء على قلتها ستكثر مع توالى السنين ليس فى هذه الدار فحسب ولكن عند دور النشر الأخرى التى ستتولى نشر هذا العمل وتأخذه من الدار المصرية.
وبمناسبة دار المعارف، فإنها تسير من سيئ إلى أسوأ إلى أشد سوءا وقتامة، عملت بها سبعة أشهر، ولمَّا لم ترق لى الحال تركتها رغم أننى لم أقدم استقالة، هكذا أنا أترك العمل ولا أقدم استقالتى.
كان هناك كتاب أصدرته دار المعارف للأستاذ بسام الشماع عن نهر النيل، اسمه تحديدا “نهر النيل.. شريان الخير، الماضى والحاضر والمستقبل” عن سلسلة “اقرأ”، أى كتاب صغير لا يتجاوز مائتى صفحة، لكنَّ أخطاءه تعدت مائة وخمسين خطأ نحويا ولغويا، فقررت مقابلة رئيس مجلس الإدارة، الأستاذ سعيد عبده، وأخذت الكتاب وظللت على الخطأ فى دائرة، وكتبت ثلاث صفحات أو أربع، بيَّنت فيها الخطأ والصواب، وأخذ منى رئيس مجلس الإدارة نسختى وأعطانى نسخة أخرى، ولا أعلم هل حقق فى الأمر أم لا.
وكذلك أصدرت دار المعارف كتابا من كتب التراث محققا بمعرفتها، ولكن لم يلتزم المحقق بالواجبات التى يجب على المحقق اتباعها، لدرجة أن لم يشكِّل كلمة واحدة، وسبق أن كتبت عنه مقالا، فنَّدت فيه مزاعم المحقق، وللأسف الكتاب سُبَّة فى جبين دار المعارف.
طبع الكتب أو ضياع التراث ولا ننسى بعض كتب الهيئة المصرية العامة للكتاب، ففيها أخطاء بالجملة، ولابد من الإقرار أن الأخطاء هنا ليست نحوية بالدرجة الأولى، ولكن قد يسقط حرف من الكلمة، أو يوضع حرف مكان آخر، ومن ذلك كتاب “الرؤية الإبداعية.. مجموعة مقالات من ترجمة أسعد حليم، مثلا “أوثر” تكتب “أرثر”، موضوعات تكون مموضعات، وأغلب أخطائها من هذه النوعية، وهى إن كانت بسيطة لكنها تشوه النص، وتقضى على متعة القراءة، فالقارئ مشغول بالتأكد من ضبطه.
ولعدم المساءلة القانونية، نذكر أول حرف من بعض الدور، حتى لا نقع تحت طائلة القانون.
أما بالنسبة إلى كتب التراث، فإن مكتبات مثل: “م”، و”ت”، و”د ك ع”، و”ط”… وغيرها كانت كفيلة بتشويه التراث، فمثلا كتاب “البيان والتبيين” للجاحظ من تحقيق عبدالسلام هارون – والكتاب من إصدار مكتبة “الخانجى” وهى مكتبة مشهود له بالإتقان وحفظ التراث كما يجب – نشرته مكتبة “دار ط” بسعر زهيد إلى حد ما، وفرحت به جدا، وبدأت أقرأه بشغف، لكن وجدت أخطاء فى تشكيل بعض الكلمات، وعلَّمت عليها، وحزنت كثيرا بقدر فرحى، وأذكر أنى وجدت كلمة “الأطول” مكتوبة هكذا “إلا طولُ”، كما أذكر أننى اتصلت بأستاذى المرحوم الدكتور محمد على سلامة، وأخبرته بضيقى من هذه الدار؛ إذ الأخطاء كثيرة ولا تحتمل ولا تغتفر، فقال لى: هوِّن عليك، وكان رحمه الله يلقى محاضرة على طلابه. ولم أسكت على هذه المهزلة فاتصلت بالدار، وكلمت مسئولا لديهم، وقال إنهم حصلوا على حق الطبع من ابنه، ووعدنى بالانتباه فى المرة المقبلة.
كذلك، اشتريت من دار “ط” أيضا كتب “أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك”، و”شذور الذهب فى معرفة كلام العرب”، و”قطر الندى وبل الصدى” لابن هشام الأنصارى، تحقيق المرحوم الشيح محيى الدين عبدالحميد، وهى كتب لا غنى عنها لمن يريد أن يتعلم النحو، وللأسف بها أخطاء كثيرة، كأن يسقط حرف أو التشكيل خطأ، ولهذا حرصت على اقتناء هذه الكتب من سور الأزبكية أو الإسعاف، فهى إن كانت طبعات قديمة لكنها تمتاز بالدقة، لإيمانى بهذا الشعار: كل قديم جدير بالاقتناء وكل جديد جدير بالإلقاء. طبع الكتب أو ضياع التراث
أما “د ك ع” فإنها تعهد إلى الباحثين الشبان بتحقيق الكتب التى حققها أعلام المحققين، لا لشىء إلا ليحق لها أن تبيع هذه الكتب وبأسعار مرتفعة جدا، فمثلا “سر صناعة الإعراب” لابن جنى حققه كل من مصطفى السقا وإبراهيم مصطفى ومحمد الزفزاف وعبدالله أمين، وطبعته دار مصطفى البابى الحلبى، وهؤلاء أعلام فى مجال التحقيق، لكن “د ك ع” لم تر فى هؤلاء الكفاية، فأوكلت تحقيق الكتاب إلى شابين. وليس عيبا أن يحقق كتابا بعض الباحثين الشبان، لكن العيب أن توجد أخطاء فى التحقيق، فمهمة التحقيق تذليل الكتاب للقارئ مع الحفاظ على النص.
وتنشر دار “ت” الكتب التراثية ذات الأجزاء المتعددة والنادرة أيضا، أذكر أنى اشتريت منها كتاب “شرح الأشمونى على ألفية ابن مالك” تحقيق الشيخ محيى الدين عبدالحميد، ولم أكن قرأته ولكنى سمعت عنه أنه شرح واف، فاشتريته فى معرض القاهرة للكتاب، وبعد يومين عدت إلى دار النشر مرة أخرى؛ حيث أعدت إليها الكتاب؛ إذ كانت هناك صفحات غير موجودة، إضافة إلى كثرة الأخطاء بالطبعة. ومنذ ذاك الوقت وأنا لا أشترى أى كتاب من هذه الدار، وحتى عندما كنت مشتركا فى مكتبة مصر العامة بالدقى “مكتبة مبارك”، وأحلوا كتب دار “ت” محل الكتب القديمة، ذهبت إلى مسئول قسم المشتريات بالمكتبة، ووضَّحت له كمية الأخطاء، وإلى الآن لا أثق بإصدارات “ت”، حتى لو كانت مجانا.
كما لاحظت بمكتبة مصر العامة، منذ سنوات عدة، انتشار بعض الطبعات لكتب إبراهيم المازنى، فكنت أستعيرها، ولم تكن مطابقة لما هو موجود عندى، فكنت أجد سطرا أو سطرين، أو كلمة أو كلمتين، غير موجودة بالطبعة، وهو ما يفوت علىَّ لذة القراءة وحلاوتها.
أما دار “م” فقد اشتريت كتاب الكامل للمبرد، وليتنى لم أشتره، وكرهت الكامل بسبب هذه الدار، لكنى تغلبت على هذا بالعودة إلى الطبعات القديمة.
قد يكون سبب هذه المشكلة، هو أن دار النشر تقوم بكتابة النص عن طريق “التايبست” أو ما يطلق عليه “الجمِّيع”، ومن ثم يُسقِطُ حرفا أو كلمة أو سطرا، أو يخلط فى التشكيل. ولحلِّ هذه المشكلة يجب نشر الكتاب أو طبعه من طبعة موثوق بها، وألا يتدخل عنصر بشرى فى الكتاب، وأعنى الجمع أو التصحيح، فإنه كارثة على الكتاب، لابُد من طبع الكتاب كما وصل إلينا، وألا يقوم بالتحقيق من ليس مؤهلا أو ليست له دراية كافية، فلقد وجدت فى مكاتب التحقيق مهازل وكوارث بحق تراثنا، فما المانع من نشر كتاب من تحقيق الشيخ عبدالسلام هارون مثلا؟ على أن تحصل دار النشر صاحبة الحق على جزء من الأرباح أو نسبة بسيطة من المال.
ما ذكرته جزء بسيط مما هو موجود بالسوق، فكل دار نشر تسير خبط عشواء فى طريقة النشر، وعلى الدولة أن تحافظ على تراث الآباء والأجداد ممثلة فى الهيئة المصرية العامة للكتاب، فعليها أن تدقق فى مطبوعات هذه الدور، وأن تتأكد من خلو الطبعة من أى أخطاء، فإذا جاءت دار تريد نشر أعمال طه حسين مثلا أو العقاد، فما عليها – الهيئة- إلا أن تشكل لجنة لدراسة هذه المطبوعات وتطابقها على أصح الطبعات، وحتى لو كانت الدار إلكترونية مثل “هندواى”، فقد وجدت خطأ فى رواية “أديب” لطه حسين، إذ وردت كلمة منصوبة ولا أدرى سبب النصب، فعدت إلى طبعة دار المعارف، فرأيتها أنها خبر لكان، فطبعة هنداوى ليست دقيقة مئة بالمئة، هناك أخطاء لا يلحظها إلا المتخصصون.
وليت الدولة تساعد دور النشر التى اشتهرت بدقتها وقدمها، مثل “الخانجى”، و”الآداب”، و”مصطفى البابى الحلبى”، و”دار إحياء الكتب العربية”، وغيرها من الدور العريقة.
طبع الكتب أو ضياع التراث
بقلم. الحسيني السيد