نوبل.. شعلة جديدة في مسيرة هان كانغ الأدبية

نوبل.. شعلة جديدة في مسيرة هان كانغ الأدبية

ملاك أشرف

لا يحتاج الكاتب المُتوهج إلى مغادرة وطنه، أو أن يصبحَ إنكليزيا أو فرنسيا للحصول على جائزة نوبل للآداب كالسابق، بل أصبحت الجائزة هي التي تأتي إليه، هذا هو معنى الكاتب المُختلف والصادق الذي يستحقّ العالم بأكمله وليس جائزة سنوية عابرة فقط! فالقيمة الحقيقيّة تكمن في رحلتهِ الذاتيّة وتقديره لثقافته وجذوره وليس في الجائزة نفسها بلا شكّ.
كما أن مسألة التعاطف مع حيوات المنسيين والضعفاء والنساء، بطرائق واعية ومُبتكرة، مُكتنزة بالاستعارات والأساليب الشعرية تكون جديرة بالانتباه والاعتراف الدائم حقّا، وهذا ما حدث اليوم ببساطة. عندما تتعلق القضية بالعنف والاغتراب والحزن، فلا مجال للاعتراض؛ إذ الهشاشة البشرية وفقدان الهُوية والغربة الروحيّة تستدعي جميع الأضواء..
ما زلنا نخشى – أكثر فأكثر – أن نفقدَ ثقتنا في الإنسانية ومع ذلك هُناك مَن أنصف الصدق، الوضوح والتأمل العميق في الوقت الراهن. إن الكاتبة المُهمّشة هان كانغ يلتفت إليها العالم بعد سنواتٍ من النسيان، وعدم المُبالاة وحتّى الإهمال، وكأنّ النهايات البهية هي للصادقين والأنقياء وأصحاب القضايا الإنسانية بامتياز، النثر الشعري المُعاصر سيظل ينتصر إلى الأبد.
حصدت هان كانغ ذات الكتابات الوجوديّة المؤثرة جائزةَ نوبل للآداب؛ لقدرتها على التعبير عن فيض المشاعر التي يثيرها كُلِّ عنصرٍ في داخلها ولأسلوبها البسيط الشاعريّ والعميق في آنٍ واحد. كانت تطمح دائما إلى أن “تتحول كتاباتها إلى شيءٍ أشبه بمرهم أبيض يوضع على تورم، أو شاش يوضع فوق جرح”. وتعتقد أن الكلمات إذا مرّت من خلالها فقد ترتجف كصرخةٍ حزينة، وعلى الرغم من ذلك فإنها سمحت لنفسها بالاختباء بين العبارات والتواري عن الأنظار بسهولة. قالت إنها لا تملك عزيزا، لا المكان الذي تعيش فيه، ولا الباب الذي تعبره كُلّ يوم، ولا حتى حياتها اللعينة. كما صرحت كانغ بأنها تعاني بشكلٍ دوري من نوبات الصداع النصفي منذُ طفولتها، فهو يجعلها مُرغمة على تأجيل مهامها والانصراف إلى مواجهة الألم الجسديّ والنفسيّ من دون سابق إنذار، مع شعورها بانسياب قطرات الزمن واحدة تلو الأُخرى حتى بعد عودتها إلى وتيرة حياتها اليومية الطبيعية، صارت تعبأ في الواقع بالزمن واعتادت أن تتساقط بين برهةٍ وثانية مثلما تتساقط مئة ريشة وريشة في مشهدٍ مليء بالبلورات الثلجية.

عاشت في صغرها تجربة يمكن أن تكون السبب الرئيس في اقترابها من الحزن وفهمه بعمقٍ، وهي فقدان أُختها، هذه القصة الثقيلة رافقتها وكبرت معها وكانت تطفو ذكرياتها دوما على السطح؛ لذا شعرت بالحاجة إلى الكتابة عن ألم موت أختها المُباغت، حيث أصبح إخفاء هذا الجرح أمرا مستحيلا. كُلّما فرّت إلى مدينةٍ بعيدة وغريبة بحثا عن العزلة والنسيان، وجدت الأماكن الضبابيّة تجبرها على النظر أكثر في داخلها التي تحاول تجنبه. وما تظنه مُستنقعا غامضا لم يكن سوى مُجرّد بركة صغيرة جافة مُغطاة بالتراب؛ لذلك لم تستعد شيئا منها مثلما لم يستعد البحر الملوث لونه الأزرق ولمعانه غير المحدود. حاولت جاهدة أن تعزل نفسها عمّا يضطرب في أعماقها، لكنها فشلت في بلوغ خطّ النهاية واعترضت الخفايا طريقها نحو هدفها، ثمة قوة خفية تمنعها من التقدّم نحو الضوء، تقف مُستعدة داخل جسدها على حدِّ تعبيرها.
كتبت في كتابها الشخصيّ الدراميّ ” الكتاب الأبيض” عن موت شقيقتها بعد ساعاتٍ قليلة من ولادتها ما يلي: «لا يمكنني أن أؤكد أو أنفي إذا كانت قد بحثت عنّي حقّا، إذا كانت قد حلقت فوق رأسي أو قُربَ حواف عينيّ، لم أكن أفهم ذلك الشعور الغريب الذي كان ينتابني وأنا طفلة: انفجار مُفاجئ لمشاعر جياشة في داخلي، أتساءل إن كانت هي مصدره.. هنالك لحظات أكون فيها مستلقية في حجرة مظلمة ويكون للبرودة في الجوّ وجود ملموس، لا تموتي، من أجل الرب لا تموتي، التفت باتجاه تلك الأصوات المبهمة المصدر، يملؤني مزيج من حُبٍّ وألم. التفتُ باتجاه غشاوة باهتة وحرارة جسد، رُبّما أفتح عينيَّ في الظلام كما فعلت هي وأحدق في الفراغ». هنا يكشف المقطع عن صراعٍ داخليّ، مليء بالعواطف المُتناقضة ومشبع بمشاعر القلق والحيرة والخوف، الناتجة عن استعادة الذكريات المُلتبسة غير المؤكدة، وهي فكرة فلسفيّة ترتبط بطبيعة الوجود والهُوية الذاتية.

استعملت اللُّغة المجازيّة التي تمزج بين الواقع والتصورات الشخصيّة – العاطفيّة – ما أضفى على النصّ بُعدا تأمليا وشِعريا في الوقت نفسه. هكذا هي نصوصها تكتسحها الأشعار والشذرات. ترى أن اللغة كالسهم الذي دائما ما يخطئ هدفه بهامش ضئيل، وهي أيضا وسيلة تنقل المشاعر والأحاسيس القادرة على إلحاق الألم. لا تزال تكتب القصائد بين الحين والآخر، وتجد نفسها مرارا تستخدم الكنايات والمجازات المُتعلقة بلُغتها. تحس بتلك اللحظات التي تكون فيها عواطفنا ممزقة، فتعكس اللغة هذا التمزق بحالةٍ يرثى لها.
تُشبه حياة مدينتها وموتها المألوف بحياة وموت أختها عندما حدث على نحوٍ سريع ومُفاجئ، ولولا وقوع الحدث لما ولدت هان كانغ من الأساس، حضورها يعني اقترانها بغياب من سبقها. مضت مُخاطبة شقيقتها بالآتي: “إن هذه الحياة لا تحتاج إلّا واحدة منّا فقط كي تعيشها، لو أنك عشتِ أكثر من تلك الساعتين لما كنتُ حية الآن”.

تؤمن بأن الأشياء تصبح اعتيادية فقط لأننا نلتقيها/ نصادفها بشكلٍ يوميّ، وإلا فليس هناك ما يجعلها تبدو بلا معنى إلى هذا الحدّ خارج إطار هذا التوقع. كحال الثلج الذي يهطل لأوّل مرّة، فيهرع الجميع لمشاهدته لكنه سرعان ما يغدو شيئا عاديا لا يلفت انتباه أحد ولا يثير الدهشة بعد ذلك. أولت اهتماما كبيرا بالتفاصيل التي تحوم أمامها وفي داخلها، متخيلة أن العالم سريع الزوال، وأنها محظوظة كي تأتي إليه وتكتب أعمالا استثنائية بغية تطهير الذات والابتعاد عمّا يدمّرها ويشوّهها، خاصة أن بياض المرء تدنسه قسوة الأيّام ولهيبه يتضاءل مثلما تتضاءل وتتلاشى أعواد الشمع في النهار. إن الأبديّة وهمٌ سيتلاشى هو بدورهِ يوما ما. تناولت في موضوعاتها صعوبة الوجود الإنسانيّ ومُعاناة النجاة فضلا عن الحاضر الذي يكتبه الماضي والذكريات الحادّة، إلى جانب سردها عن الانتفاضات والمجازر الكورية المسكوت عنها وآثار التعذيب المُماثل لضحايا التسمم الإشعاعي، المُعشش لعقودٍ في عظامهم الهزيلة.
تطرقت الكاتبة جيا يانغ فان، إلى مقال هان كانغ المكتوب في أكتوبر/ تشرين الأول في صحيفة “نيويورك تايمز” عن مشاهدتها من سيول لكوريا الشمالية والولايات المتحدة، وهما تنخرطان في كارثة دبلوماسية مدمرة محتملة. في المقال كتبت كانغ: “من حين لآخر، يبلغ الأجانب أن الكوريين الجنوبيين لديهم موقف غامض تجاه كوريا الشمالية. وحتى في حين يراقب بقية العالم الشمال في خوف، يبدو الكوريون الجنوبيون هادئين بشكلٍ غير عادي”. ومع ذلك تؤكد أن هذا الهدوء ليس إلا سطحا، مُضيفة: “لقد دفن التوتر والرعب الذي تراكم لعقود من الزمان في أعماقنا ويظهر نفسه في ومضات وجيزة خاطفة”. بالنسبة لكانغ فإن مشروع الكتابة عندها مثل الترجمة، هو نوع من الكشف، يجب عليها أن تستخرج هذه المشاعر المدفونة، وتعيد الشعور بالوكالة إلى شخصياتها الخيالية وأولئك الذين تلهمهم حياتهم.
وُلدت هان كانغ في كوريا الجنوبية عام 1970، ونشأت في أجواء موسيقيّة وأدبية كورية بحيث تعمقت في الأدب حتى أصبحت جزءا منه. حولت الجروح المؤلمة في التاريخ الحديث إلى أدبٍ عظيم؛ مما رفع من قيمة الأدب الكوري وجعله محط الأنظار، حسب قول الرئيس الكوري يون سوك يول. هان كانغ هي أوّل كاتبة من كوريا الجنوبية تفوز بالجائزة، والمرأة الثامنة عشرة التي تحصل عليها. بيعت جميع كتبها خلال احتفال كوريا الجنوبية بفوزها بجائزة نوبل في الآداب. وقد علّقت الكاتبة الكورية الجنوبية كيم بو يونغ قائلة: “نحن نحتفل ونبتهج، وأنا أشعر بفخر وسعادة كبيرة لأن هذا الفوز يدحض بشكلٍ مباشر محاولات إخفاء وتشويه تاريخ كوريا الماضي”. أمّا الكاتبة جون هيجين فقالت: “بمجرد سماعي خبر فوز هان كانغ بجائزة نوبل، فكرتُ بتفانيها في كتابة الروايات التي تتناول قضايا المجموعات المستبعدة والمُعرضة للتمييز. ثمّ تذكرت أن هان كانغ تنتمي إلى منطقة هونام، المُكتظة بالعنصرية والتحيّز، مثل كيم داي جونج“، كان كيم رئيسا لكوريا الجنوبية بين عامي 1998 و2003، وحصل على جائزة نوبل للسلام في عام 2000.

يميل كُلّ فرد في هذا العالم إلى كُتّاب وموضوعات معينة بناء على ذوقه ومعاييره ومزاجه الشخصي، وهذا لا يختلف بالنسبة للقائمين على جائزة نوبل. لديهم أيضا أفكارهم ومعاييرهم الخاصة، التي قد تبدو غامضة ومُثيرة للشكوك في عملية الانتقاء؛ ولكننا سنبقى ممتنين لأن اختيارهم هذا العام وقع على هان كانغ واشتغالاتها الإنسانيّة المهمة في هذا الزمن، الذي يدفع الإنسان يوميا نحو الخيبات القاسية الوقحة والحروب الوحشية. لم تقم هان كانغ بالاحتفال، أو عقد مؤتمر بمناسبة فوزها؛ نظرا للحروب الشرسة بين روسيا وأوكرانيا وإسرائيل وفلسطين والموت المروع الذي يطال الأبرياء. لكن من المتوقع أن تتيح لها هذه الجائزة فرصةَ لقاء العديد من القُرّاء وتساعد في توسيع جمهورها الذكي، ستضيء حياتها وتسهل ترجمة أعمالها في المُستقبل القريب، بشرط أن تستعيدَ خصوصيتها وبساطتها الفائضة، المُعتادين عليها. في المجمل ذهبت الجائزة إلى مَن يعانون نفسيا ووجوديا هذه المرّة، وهو تعويضٌ للوحيدين والخاسرين في الحياة. طرقت نوبل أبواب المعاناة النفسيّة وأعلنت انتصار المرهفين والمهمشين، المُثقلين بالهموم الحياتيّة الأليمة والمُنعزلين في ذواتهم المُتشظية، هؤلاء الذين لا يستطيع أحدٌ أن يمسك بأيديهم أو يمنحهم ذكرى ساطعة تواصل المشي معهم إلى النهاية.

نوبل.. شعلة جديدة في مسيرة هان كانغ الأدبية

بقلم/ملاك أشرف/شاعرة عراقية

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!