أحمد لطفى السيد
بقلم: حسين السيد
بعد أيام قلائل تمر علينا ذكرى ميلاد أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد، الذى ولد فى الخامس عشر من يونيو عام 1872 فى قرية برقين بمركز السنبلاوين.
والمتتبع لسيرة لطفى السيد لا يكاد يظفر بكتاب من تأليفه، إنما أغلب أعماله ترجع إلى أنها تجميع للمقالات التى كتبها فى صحيفة “الجريدة”؛ حيث قام إسماعيل مظهر، زوج أخته، بجمع بعضٍ من هذه المقالات فى صورة منتخبات، ونشرها فى جزءين صدرا عام 1937، وكذلك أخرج كتاب “تأملات فى الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع”. وينصب اهتمامه على ترجمة بعض كتب أرسطو، فترجم: “الأخلاق إلى نيوقوماخوس” عام 1924، و”الكون والفساد” عام 1932، و”الطبيعة” عام 1935، و”السياسة” عام 1947.
والسبب فى اهتمام لطفى السيد بالترجمة بدلا من التأليف إنما يعود إلى رغبته فى تنوير الأمة وتثقيفها بكل أنواع المعرفة من الأمم التى سبقتنا إلى الرقى، بدلا من المغامرة والعجلة بالتأليف الذى يضطر فيه المرء أحيانا إلى الانحياز إلى طريق دون آخر يصبح ملتزما به، ولكن سرعان ما يتبين أنه لم يكن إلا مجرد اختيار عشوائى.
أما اقتصاره على ترجمة أرسطو فذلك راجع إلى أنه يميل بطبعه إلى الفلسفة والمنطق، وأرسطو هو الرائد فى هذا المجال، وهذا ما أشار إليه فى قصة حياته، فقال: نشأت من الصغر ميالا إلى العلوم المنطقية والفلسفية، وقد لفت نظرى فى أرسطو أنه أول من ابتدع علم المنطق، وأكبر مؤلف له أثر خالد فى العلوم والآداب، ولما كنت مديرا لدار الكتب المصرية تحدثت مع بعض أصدقائى فى وجوب تأسيس نهضتنا العلمية على الترجمة قبل التأليف كما حدث فى النهضة الأوروبية؛ فقد عمد رجال هذه النهضة إلى درس فلسفة أرسطو على نصوصها الأصلية، فكانت مفتاحًا للتفكير العصرى الذى أخرج كثيرًا من المذاهب الفلسفية الحديثة.
ولما كانت الفلسفة العربية قد قامت على فلسفة أرسطو، فلا جرم أن آراءه ومذهبه أشد المذاهب اتفاقًا مع مألوفاتنا الحالية، والطريق الأقرب إلى نقل العلم في بلادنا وتأقلمه فيها؛ رجاءَ أن ينتج فى النهضة الشرقية مثل ما أنتج فى النهضة الغربية.
وفى الحق إن أرسطو لم يكن كغيره معلمًا فى نوع خاص من العلوم دون سواه، بل هو معلم فى الفلسفة، معلم فى السياسة والاجتماع، فهو كما لقبه العرب بحق “المعلم الأول” على الإطلاق، وكما وصفه دانتى فى جحيمه “معلم الذين يعلمون”.
وهو ما جعل الدكتور محمد كامل حسين يعقد مقارنة بين الاثنين، أرسطو ولطفى السيد، فى مقاله “أحمد لطفى السيد والدعوة إلى أرسطو” بمجلة الكاتب المصرى، فرأى أن كليهما معلم، وهما شديدا العناية بالكليات عناية فائقة، كما أنهما مرهفا الحس من ناحية المنطق البحث يدرك الخطأ فى التفكير بطبيعته الصافية، وينقص كل منهما العناية بالتفاصيل والطريقة التحليلية وإدراك ما للمنطق من حدود كثيرا ما تقصر به عن إدراك الحقائق العلمية..
وتعد مدرسة لطفى السيد امتدادا لمدرسة الإمام محمد عبده، فى إيجابيتها وصراحتها واعتدالها وخاصة فى ذلك الطور الأخير من حياة الإمام، وفى اعتناقها لسنة الإصلاح والتطور والابتعاد عن العنف والثورة، وإن ارتدت إلى العمل السياسى الذى كفر الشيخ به وابتعد عنه.
تولى لطفى السيد رئاسة تحرير صحيفة “الجريدة” التى أصدرها حزب الأمة فى مارس 1907، بقيادة محمود باشا سليمان، وحسن باشا عبد الرازق الكبير، وكانت لسان حال الأعيان المصريين. وحملت الجريدة كما هو معروف لواء الدعوة إلى “المصرية”، ومعارضة الاتجاه إلى تركيا، إلى أن توقفت عن الصدور فى نهاية سبتمبر 1914. وقال لطفى السيد فى افتتاحية العدد الأول: “ما الجريدة إلا صحيفة مصرية، شعارها الاعتدال الصريح، ومراميها إرشاد الأمة المصرية إلى أسباب الرقى الصحيح، والحض على الأخذ بها، وإخلاص النصح للحكومة والأمة بتبيين ما هو خير وأولى، تنقد أعمال الأفراد وأعمال الحكومة بحرية تامة، أساسها حسن الظن من غير تعرض للموظفين والأفراد فى أشخاصهم وأعمالهم التى لا مساس لها بجسم الكل الذى لا ينقسم، وهو الأمة”.
وأرجع يحيى حقى الهالة التى حول اسم لطفى السيد، فهو أستاذ الجيل، رغم أنه لم تكن له مؤلفات مثل طه حسين أو هيكل أو العقاد مثلا، أرجع ذلك إلى أفكاره وآرائه ومبادئه التى غرسها فى الجيل الذى تلاه، فقد تتلمذ على يديه هيكل، وانظر أثره فيه بكتابه “مذكرات فى السياسة المصرية” فى بداية الجزء الأول، وجعله على نوافذ واسعة ليطل منها على الفكر الأوروبى فى مجالات الفلسفة والاجتماع والأدب. كما كان من الداعمين والمساندين لطه حسين، ويكفى أنه استقال من إدارة الجامعة مارس 1932 احتجاجا على نقله وهو عميد لكلية الآداب إلى وزارة المعارف بغير إرادته وإرادة الجامعة. وغير أفكاره التى بثها على صفحات الجريدة، وقال يحيى حقى وقد سئل عن سبب المكانة الرفيعة التى احتلها لطفى السيد: إنه أسس مدرسة ثقافية مصرية صميمة، مدرسة من الأفراد لا الكتب، هكذا فعل سقراط والأفغانى، يكفيه أن نبتت فى أرضه أزهار مثل هيكل وطه حسين، وأنه ظل دائما يلمع وسط غبار مثار من التململ والاستنقاص والرثاء المهين للنفس، رمزا للتفاؤل الشديد بأصالة هذا الوطن ومستقبله وشبابه.
لطفى السيد حصل على ليسانس الحقوق سنة 1894، وعين مدير لدار الكتب سنة 1915، وفى 1925 عين مديرا للجامعة المصرية، فوزيرا للمعارف سنة 1928، وفى 1945 عين رئيسا لمجمع اللغة العربية حتى وفاته فى الخامس من مارس 1963، وقد تخطى 91 عاما.
وصفه العقاد فى كتابه “رجال عرفتهم” بأنه فى فكرته “أفلاطونيا”، يقصد أنه عاش لأمته لا لمصلحته الخاصة، فقال العقاد موضحا المقصود من الأفلاطونية :”ومن معانيها، وهو أقرب إلى ما نعنيه في هذا المقال، أن الرجل العام ينبغى أن يعيش للمصلحة العامة تطوعًا وحسبة بغير جزاء، وألا يشتغل بخاصة أموره “الشخصية”؛ لأن الدولة التى يتجرد لخدمتها هى التى تتكفل له بكل وسائل التفرغ لتلك الخدمة، وليس له بعد ذلك حق فى وقته الخاص لغير القيام بحقوقها”.
لكن هذا لا يعنى أنه كان مثاليا بل أخطاء قد تكون جسيمة، سأتعرض لها فى مقال آخر عنه.