الحرافيش
بقلم: حسين السيد
أجرت المذيعة سلمى الشماع لقاء تلفزيونيا مع نجيب محفوظ ومجموعة من الحرافيش، وفى بداية اللقاء سألت عن معنى كلمة “الحرافيش”، فقال الفنان أحمد مظهر: إنها كلمة مأخوذة عن التركية، وهى تنقسم إلى جزأين “حارة” و”فيش” أى بدون حارة، فالحرافيش هم الناس الذين ليس لهم أو حارة أو سكن، أو ما يعرف بـ”الصعاليك”. وتساءل مظهر هل الكلمة وردت فى القواميس أم لا، ليرد نجيب محفوظ بأنها غير موجودة لأنها كلمة “عامية”.
وربما وردت كلمة الحرافيش لأول عند الرحالة ابن بطوطة، ولكنى لا أقطع بذلك، ففى كتابه “تحفة النظار فى غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، في الجزء الأول، في أثناء حديثه عن مصر وبعض أمرائها، نجد كلمة الحرافيش، فقال: “ومنهم طشط المعروف بحمص أخضر (واسمه بطاءين مهملين مضمومين وبينهما شين معجم)، وكان من خيار الأمراء وله الصدقات الكثيرة على الأيتام من كسوة ونفقة وأجرة لمن يعلمهم القرآن، وله الإحسان العظيم للحرافيش، وهم طائفة كبيرة أهل صلابة وجاه ودعارة، وسجنه الملك الناصر مرة، فاجتمع من الحرافيش آلاف، ووقفوا بأسفل القلعة، ونادوا بلسان واحد: يا أعرج النحس، يعنون الملك الناصر، أخرجْه، فأخرجَه من محبسه وسجنه مرة أخرى، ففعل الأيتام مثل ذلك فأطلقه”.
وهنا نلاحظ تعريف ابن بطوطة لكلمة الحرافيش بأنهم أهل صلابة وجاه ودعارة، أى أنهم أقوياء أشداء يتجرأون على الحكام ويتحدونهم ولا يهابونهم، فمن هؤلاء الذين يخاطبون الحاكم بقولهم يا أعرج النحس؟! إلا إذا كانوا من القوة والكثرة والجرأة بحيث تسمح لهم بتحدى الحاكم أعلى سلطة فى البلاد! كما نلاحظ أن الحرافيش لم يكن لهم وجود إلا مع بداية حكم المماليك أو نهاية حكم الأيوبيين، فابن بطوطة كان فى القاهرة سنة 726 هـ، فى زمن الناصر محمد بن قلاوون، ولابد من أن الحرافيش كانوا موجودين قبل هذا حتى إن أمرهم استفحل وعظم خطرهم إلى درجة أنهم استرعوا انتباه ابن بطوطة.
وابن بطوطة هذا رجل من رجال القرن الثامن الهجرى، حيث ولد فى عام 703هـ بمدينة طنجة المغربية، وشرع فى بدء رحلته وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، وقد استغرقت تقريبا ثلاثين سنة؛ إذ بدأت فى رجب من عام 725هـ، وانتهت فى شهر ذى الحجة من عام 754 هـ. ولم يدون ابن بطوطة رحلته بنفسه، أو لم تكن له يوميات يسجل فيها كل ما وقع، ولهذا ذهب بعض الباحثين إلى أن ابن بطوطة كان أعجميا ولم يكن يحسن العربية. كما أن ابن خلدون قد التقاه وتحدث عنه فى كتابه “العبر وديوان المبتدأ والخبر”، وشك فى أخباره بل قد كذبه فيما أورده.
أما من تولى كتابة رحلة ابن بطوطة فهو رجل أديب يدعى “ابن جزى”، وذلك بأمر من سلطان فاس، أبى عنان. واختلفت الأقوال فى ضبط “جزى”، فبعضهم ذهب إلى أنه على وزان علي، بفتح الجيم وكسر الزاى وتشديد الياء. وذهب بعضهم الآخر إلى أنه على وزان سُمي، بضم الجيم وفتح الزاى وتشديد الياء. وفريق ثالث ذهب إلى أنه مضموم الجيم مفتوح الزاى وبعدها ياء ساكنة وهمزة.
وابن جزى قد أضاف إلى رحلة ابن بطوطة وعدل وغير؛ وهو يشير إلى ذلك، فيقطع الإملاء ويضيف ما يراه مناسبا، ثم يعود إلى تسلسل الإملاء بكلمة “رجع”، أى العودة إلى إملاء ابن بطوطة مرة أخرى.
وبالعودة إلى الحرافيش نجد أنهم قد كثر ذكرهم بعد ذلك فى كتابات المؤرخين، فهذا تقى الدين المقريزى يروى فى كتابه “السلوك لمعرفة دول الملوك” شيئا من أخبارهم، فعندما اشتدت أزمة الغلاء فى شهرى رجب وشعبان من سنة 766 هـ، وكان الأمراء يتعهدون الفقراء، فلكل أمير مجموعة من الفقراء يتولى أمرهم، ما عدا الحرافيش فقد “نودى فى القاهرة ومصر بألا يتصدق أحد على حرفوش، وأى حرفوش شحذ صلب، فآوى كل أحد فقراءه فى مكان”، ويُلاحظ أن الحرافيش يتمتعون بالصحة والقوة التى تمكنهم من العمل أو التحمل على الجوع، أو لهم طرق فى كسب قوتهم، حتى إن لا يستحقون العون والمساعدة.
كما ورد ذكرهم فى “النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة” لابن تغرى بردى، فى أحداث سنة 841 هـ، وكان السلطان الأشرف برسباى يتصدق بمال كثير على الفقراء، فما كان من الفقراء إلا أن هاجموا متولى الصدقة وجذبوه حتى أرموه عن فرسه، “فغضب السلطان من ذلك وطلب سلطانَ الحرافيش وشيخ الطوائف وألزمهما بمنع الجُعَيْدِيَّة من السؤال فى الطرقات وألزمهم بالتكسب، وأن من يشحذ منهم قبض عليه وأخرج لعمل الحفير. فامتنعوا من الشحاذة، وخلت الطرقات، ولم يبق من السؤال إلا العميان والزَّمْنَى وأرباب العاهات”. ووضع المحقق إبراهيم على طرخان هامشا عند كلمة الحرافيش قال فيه: “إن الحرافيش هى جمع لكلمة حَرْفُوش وحَرَنْفَش كغضنفر، وهو الجافى الغليظ المتهيئ للشر والسافل من الناس، ومن معانيها: الفقراء والمتشردون والمتسولون وكذلك الجعيدية، وكثيرا ما يقع هؤلاء فريسة للطواعين وأحداث الغلاء..”.
وقد رجح على مبارك فى خططه التوفيقية أن يكون اسم قرية “الحرافشة” الواقعة بمحافظة سوهاج منسوبا إلى هؤلاء الحرافيش لفقرهم وقلة عددهم، “الحرافشة فى الأصل جمع حرفوش ومعناه كما فى كتاب كترمير عن كتاب السلوك :الدنىء الخسيس ويقال فى الجمع أيضا حرافيش”.