الطريق لنجيب محفوظ أو الضياع

حسين السيد

الطريق لنجيب محفوظ أو الضياع                                                                                                                         هل تكمن مأساة “صابر” بطل رواية “الطريق” لنجيب محفوظ فى عدم اهتدائه إلى وجود أبيه “سيد الرحيمى”؟ وهل إذا التقاه فإن حياته كانت ستتغير إلى الأفضل؟ وهل الأب يرمز إلى الله؟ بمعنى أن صابر كان يبحث عن الله، فلما لم يهتدِ إليه اتجه إلى الطريق غير القويم؟ هل حقا يمكن عدُّ صابر مظلوما؟
لا أميل إلى أن صابر إذا وجد أباه فإنه سيحيا سعيدا، وسيضع حدا لشقائه، وستنتهى معاناته؛ فلم يكن يبحث عنه ليطلب الحنان والعطف والرفق والدفء والحماية من أبيه؛ بل كان يبحث عنه ليوفر له المال والجاه والسطوة كما كانت توفره وتدخره له أمه، فهذا الشاب كان عالة على أمه، وارتضى بوظيفتها التى يأباها الإنسان الحر؛ إذ كانت قوادة تجلب المتعة للآخرين إما عن طريقها أو عن طريق الأخريات، فكيف يرضى صابر بهذه المهنة لأمه التى يشمئز منها الإنسان الشريف؟!
تعوَّد صابر على السلبية وعلى عدم تحمل المسئولية وعلى التبذير، فلم يعمل طيلة حياته، فأمه هى التى توفر له كل احتياجاته، ولم يعمل حسابا للزمن، فلم يدخر جزءا من المال تحسبا لأى ظرف طارئ، بل ينفق وينفق كل ما تكسبه أمه من عرق القوادة، فباع بيتا لمجرد أن نفدت الأموال منه، ولم يبق منه إلا القليل، وحتى عندما قُبض عليها وصودرت أموالها، لم يقل لها مثلا: لا عليك أماه، سأعمل لأنفق عليك وعلىَّ. وإنما ما قاله: “سيعود كل شىء إلى أصله”، أى ستعودين إلى عملك مرة أخرى، القوادة، وسنعوِّض ما ضاع منا، فقالت له أمه مستنكرة: “أصله؟! أنا انتهيت، بسيمة أيام زمان لن تعود، ولا سبيل إلى العمل من جديد، لا الصحة تسمح بذلك ولا البوليس”. كأنه يطلب من أمه أن تستمر فى عملها ليعيش مرفها، لا ينقصه شىء.
قد يقول قائل: إنه لا دخل له فى اختيار أمه ولا دخل له فى عملها، لقد نشأ فى هذا الجو السقيم، وقد فعلت أمه ما عليها تجاهه، فاشترت له بيتا بعيدا عن منطقة عملها، ولم تبخل عليه بأى شىء، وعوَّدته على الحياة الحلوة، فعاش مثل عيشة الأكابر، فالذنب ليس ذنبه، فهو فى هذا ضحية لبيئته القذرة.
هذا صحيح، فلا يتحمل صابر وحده المسئولية، فالمجتمع أيضا له نصيبه منها، لكن ما يؤخذ عليه أنه واصل السير فى هذا الطريق، كان عليه أن يتوقف عند نطقة معينة، ويبدأ من جديد، وأن يطلب من أمه الكف عن عملها الشائن، خاصة أن لديه ثروة يستطيع بها أن يغير مهنتها، وأن يقيم مشروعا آخر يدر عليه ربحا وفيرا ويحفظ له كرامته، كما أنه يتمتع بقوة جسمانية تمكِّنه من دفع الأذى النفسى الذى لحقه من جراء مهنة أمه، حتى إنها طالبته بتجنب الغضب حتى لا يدخل السجن؛ إذ قالت له: “دعهم يقولوا ما يشاءون ولكن لا تستعمل قبضتك. فكوَّر قبضته قائلا: لولا هذه القبضة لعرضوا بى فى كل مكان، إن أحدا لم يجرؤ على ذكرك بسوء أمامى وأنتِ فى السجن”، فغيرته على أمه تجبره وتفرض عليه أن يمنعها من المواصلة فى هذا العمل البطال، كان عليه أن يقول لها: إن عملك هذا يجلب لى العار بين المجتمع. من فضلك، أغلقى هذه المواخير، ولنتجه إلى عمل آخر، أو نرحل إلى مكان لا يعرفنا فيه أحد، فلنسافر مثلا إلى القاهرة، فلا أحد يمكن أن يستدل على هويتنا. لم يقل لها صابر مثل هذا الكلام، بل استمرأ ما تفعله، وتقبل مهنتها راضيا كل الرضا، ولم ينغصه شىء، ولم يعكر صفو مزاجه احتقار الناس لمهنة والدته.                                                                                                                                                            الطريق لنجيب محفوظ أو الضياع
أما بخصوص رحلة البحث عن أبيه، فلم يكن صادقا فى رحلته تلك، وأعتقد إلى حد الجزم أنه ما بحث عنه إلا لأنه فى حاجة إلى ماله، خاصة أن أمه أخبرته أنه سيد ووجيه بكل معنى الكلمة، لا حد لثروته ولا نفوذه، فكان الأب بمنزلة المنقذ للابن من الورطة التى حلت به، وقد صرحت الأم بذلك:
– “أمى ما معنى هذا كله؟
– معناه أنى أوجهك إلى المخرج الوحيد من ورطتك”.
ولم تكن الورطة سوى أنه قد أوشك على الإفلاس فقط، وهو لا يحب العمل الشريف، أو يعمل العمل الذى خلق له، كأن يكون قوادا أو بلطجيا أو قاتلا، هذه هى المهن التى يتقنها!
يترك صابر الإسكندرية، بعد أن بحث فيها عن “سيد الرحيمى، ويذهب إلى القاهرة، ويقيم فى فندق متواضع، ومنذ أن رأى كريمة الشابة زوجة صاحب الفندق الطاعن فى السن وقد أخذت من تفكيره حيزا كبيرا، فمرة يختلس النظرات إليها، ومرة يتخيلها مجردة من ثيابها، ومرة يتمنى موت جميع من بالفندق لينقض عليها، فقال عنها:”هذه الفتاة تثير عاصفة فى دمك، وفى سواد مقلتيها ترى الليالى المعربدة بأنغامها الجنونية، ما أحوجك إلى دفء الشهوة المعزية فى فترات الراحة من البحث”.
وفى رحلة بحثه عن أبيه يقابل الفتاة الملائكية “إلهام” فى أثناء نشره إعلانا فى جريدة “أبو الهول”، وتهتم بأمره، ويحبها حبا ليس كحبه لكريمة، فحب إلهام حب خال من الشهوات، أما حب كريمة فغارق فى الشهوات إلى أذنيه، وكأن إلهام ظهرت فى طريقه لتطهره من خطاياه ودنسه وإثمه وفجوره وحياته الفاسقة، أما كريمة فهى الشيطان فى صورة امرأة؛ إذ شجعته على ممارسة الرذيلة معها، فهى التى ذهبت إلى غرفته، وسمحت له باقتحامها، وهى التى وسوست له بقتل زوجها، فقد همست فى أذنه بفكرة الموت، “وفى أعمق لحظات الحب تتمالك أنفاسها لتهمس فى أذنه: متى تختفى العقبة التى تهدد حبنا” ليخلو لهما الجو، إلى أن استقرت الفكرة فى رأسه، وهى التى خططت ودبرت وسهلت له عملية القتل.
إذن، كان صابر بين طريقين، طريق سيؤدى به إلى النجاة والسلامة والاحترام، وطريق آخر مغموس بالدم وآخرته سكة الندامة؛ حيث الموت شنقا.
كان عليه أن يوازن بين الطريقين، وأن يختار طريق السلامة، وأن يختار من تحبه لذاته هو، أى يختار إلهام التى أحبته، فرغم أنه قد كذب عليها عدة مرات، فمرة أخبرها بأنه يبحث عن أخيه، ومرة أخبرها بأنه من الأعيان، ورفم أنه فى فى النهاية أوضح لها حقيقة أمره، فإنها لم تتخل عنه بل تشبثت به وصممت عليه، وعندما سألها أن تبتعد عنه، قالت له: لماذا، فقال:
– مفلس ولا أهل لى، ولا أصلح لشىء.
– الإفلاس لا يهم فهو حالة مؤقتة، والأهل لا يهمون فما حاجتنا إليهم، ولكنك تصلح لأشياء كثيرة.
فعلت إلهام من أجله الكثير، دلته على الطريق السليم، ساعدته وأمدته بما يحتاج إليه من عون مادى ومعنوى، نعم لقد أحضرت له المال ليشق طريقه، طالبته بأن يبدأ حياة جديدة، وحين سألته عن رأيه قال:
– رأيى أنكِ ملاك وأننى حيوان كسيح.
– رأس المال الذى تحتاجه تحت أمرك!
– رأس المال!
– نعم، هو ما اقتصدته للمستقبل، وثمن بعض حلى لا أستعملها، ليس ضخما ولكنه يكفى، استشرت زملاء خبيرين، أؤكد لك أننا سنبدأ فوق أرض ثابتة.
أرأيت أيها القارئ ماذا فعلت إلهام لتنقذ صابر من براثن الجريمة والفجور، فعلت كل ما فى وسعها، صدَّقته من أول مرة، آمنت بقضيته، كذب عليها، سامحته، غفرت له، وجمعت له تحويشة عمرها، لم تبخل عليه، سألت زملاءها عن عدة مشروعات ليختار واحدا منها، هى متعلمة وهو جاهل، هى طيبة وهو شرير، فقدت أباها منذ أن كانت طفلة، لكنها لم تفقد إيمانها بنفسها، كافحت والتحقت بالجريدة، وها هى تكمل تعليمها، هى ابنة وحيدة لأمها، مثلما هو ابن وحيد لأمه، لكن الفارق بينهما كالفارق بين السماء والأرض، هى فى فوق وهو تحت، هى فى السماء تحلق مع الملائكة، وهو على الأرض مع الشياطين منغمس فى الشهوات.
حاولت قدر استطاعتها أن تحافظ على حبها، لكنها منيت بالفشل، ربما أحبته لأنه قد يكون أول رجل يطرق باب قلبها، لماذا تمسكت به رغم كل القبح الذى بداخله؟! لماذا لم تتركه وهو قد طلب منها ذلك؟ لقد صارحها بالحقيقة، حقيقة كونه كذابا، مفلسا، لا أهل له، لكنها أصرت عليه، وظلت تبحث عنه، وتتصل به من وقت لآخر، وفكرت أن تذهب إليه فى فندقه، لتراه غارقا فى الوحل.
إن إلهام هى الضحية فى هذه الرواية وليس صابر، فإلهام عاشت مع أمها مأساة فقد الأب، وها هى تعيش مأساة فقد الحبيب الذى وثقت به، ماذا جنت فى حياتها ليفعل بها هذا؟! أما صابر فقد عاش مع أمه حياة المترفين، حياة ليس فيها كدح ولا شقاء ولا ألم ولا فقد، ما يتمناه تحققه له أمه، فأمه هى الكنز الذى لا ينضب، لم يتعب ويشقى فى الحياة مثل إلهام، إلهام التى عملت وهى فى مقتبل حياتها، لم تعتمد على أمها فى شىء، بل أحبتها وفضلت العيش معها على أبيها المتمرد، واجهت الصعاب بصدر رحب، أما هو فلم يستطع أن يعتمد على نفسه، فراح يبحث عن أبيه لينتشله من الجرائم، والدنيا عنده سكر ورقص وعراك ونساء، يعيش عالة على غيره، فى بداية أمره كانت أمه، ثم جاء دور الأب ليقوم بدورها، ولما لم يجده اعتمد على كريمة ليقضى وتره منها، ولتنفق عليه بعد أن يقتل زوجها، ويتزوجها وتؤول التركة إليه.                                                                                                                الطريق لنجيب محفوظ أو الضياع                                                                                                              بقلم.حسين السيد

Share This Article
اترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!