من «الجاحظ» إلى «شوقي» و«نجيب محفوظ»..حضارة مصر الفرعونية ملهمة
ألهمت حضارة مصر القديمة خيال كثير من الكتاب والأدباء العرب منذ فجر التاريخ حتى اليوم، وينقل جلال السيوطى فى كتابه «حسن المحاضرة فى تاريخ مصر والقاهرة» عن الجاحظ قوله: «عجائب الدنيا ثلاثون أعجوبة، عشر منها بسائر البلاد والعشرون الباقية بمصر»، وأخذ يعدد هذه العجائب، وقال فى الهرمين، خوفو وخفرع: «وهما أطول بناء وأعجَبُه، ليس على الأرض بناء أطول منهما، وإذا رأيتهما ظننتَ أنهما جبلان موضوعان».
وعندما رثا أبو الطيب المتنبى شاعر العربية الأكبر القائد المصرى أبا شجاع بقصيدة تعد من عيون الشعر فى الرثاء، ذكر هرمى مصر، فقال:
أين الذى الهرمان من بنيانه *** مَن قومُهُ؟ ما يومُه؟ ما المصرَعُ؟
تتخلف الآثار عن سُكانها *** حينًا، ويُدركُها الفناء فتتبعُ
فهو يشيد بهما، ورغم عدم المعرفة بمن بانيهما، من يكون؟ ومتى مات؟ وكيف مات؟ فإن آثاره بقيت شاهدة على منجزه. وفى البيت الثانى يقول إن أصحاب الآثار يرحلون وتبقى حينا من الدهر آثارهم، لكنها تفنى هى الأخرى، لكن آثارنا مازالت موجودة رغم فناء أصحابها.
وللدكتور أحمد أحمد بدوى كتاب بعنوان «الآثار المصرية فى الأدب العربى»، حوى كثيرا مما كتب عن الآثار المصرية فى الأدب العربى، ومنه نسوق أبياتا للشاعر عمارة اليمنى الذى انبهر بهرمى مصر، ويرى الدهر عاجزًا عن أن تمتد إليهما يده، ويراهما مثال الإتقان، ولكنه يعلن عجزه عن الوصول إلى سرهما ويقول:
خليلىَّ ما تحت السماء بنيَّة تُماثِلُ فى إتقانها هَرَمىْ مِصْرِ
بناءٌ يخاف الدهر منه، وكلُّ ما على ظاهر الدنيا يخاف من الدهرِ
تنزَّه طرفى فى بديع بنائها ولم يتنزَّه فى المواد بها فكرِى
وظلت الآثار المصرية على مدى التاريخ تبهر الأدباء والشعراء، فديوان أحمد شوقى يزخر بالعديد من القصائد عن مصر الفرعونية، فانظر إلى قصيدته الكبرى «كبار الحوادث فى وادى النيل»، وفيها يتحدث عن عصر بناة الأهرام حتى يصل إلى العصر الحاضر، ويخاطب الملك رمسيس، قائلا:
مَن كَرَمسيسَ فى المُلوكِ حَديثًا
ولِرَمسيسٍ المُلوكُ فِداءُ
بايَعَتهُ القلوبُ فى صُلبِ سيتى
يَومَ أن شاقَها إليه الرجاءُ
وتناول شوقى تمثال أبى الهول، ومقبرة توت عنخ آمون، وحتى فى منفاه بالأندلس يذكر آثار بلده، وغيرها من القصائد التى تشهد بحبه وهيامه بهذه الآثار، ولا يكتفى شوقى بكتابة الأشعار فيكتب نثرا أيضا كما فى كتابه «أسواق الذهب»، فيقول:«يا كليل البصر عن مواضع العِبَر، قليل البَصَر بمواقع الآياتِ الكُبَر، قفْ ناجِ الأحجار الدوارس، وتعلَّمْ فإن الآثار مدارس؛ هذه الحجارة حجورٌ لَعِبَ عليها الأُوَل، وهذا الصّفَّاحُ صفائح ممالكَ ودول، وذلك الرُّكام من الرمال، غبار أحْداج وأحْمَال»، كما أن له مسرحية «مصرع كيلوباترا». ولا ننسى حافظ إبراهيم، فقد تباهى بمصر الفرعونية فى قصيدته الشهيرة «مصر تتحدث عن نفسها»، وقد ألقاها لتكريم عدلى باشا يكن بعد عودته من أوروبا:
وقف الخلق ينظرون جميعا
كيف أبنى قواعد المجد وحدِى
وبناة الأهرام فى سالف الدهر
كفونى الكلام عند التحدى
وسرت فى مصر أواخر عشرينيات القرن الماضى وثلاثينياته نزعة إلى الفرعونية والقومية، وذلك أن المحتل الإنجليزى لم يكن يعترف بمصر كدولة، فهى تتبع من ناحية الخرائط الدولة العثمانية، فأرادت مصر استقلالها، وعبرت عن ذلك فى أدبها وشعرها وفنها، فلها ماض عريق تنتمى إليه. ويكتب توفيق الحكيم رواية «عودة الروح»، والغرض منها التركيز على تاريخ مصر وتراثها، أو كما يقول الحكيم:«لم يكن قصدى تأليف رواية بل إقناع نفسى بأنى أنتمى إلى بلد له كيان محدد ومستقل، وتاريخ طويل نمنا فيه، وآن لنا أن نستيقظ وتعود الروح». ولتوفيق الحكيم أيضا مسرحية «إيزيس»، وهى كما نعلم مستمدة من الأسطورة الفرعونية إيزيس وأوزوريس، لكنه لا يصور الحياة الفرعونية، أو يدرس العقائد المصرية القديمة، لكنه يناقش قيمًا تهم المجتمع، وفكرة الصراع بين الخير والشر.وسرت روح مصر الفرعونية إلى الأديب الكبير نجيب محفوظ وخصها بعدة أعمال أدبية، وهى كالتالى: «عبث الأقدار» (1939) وهى أول رواية يكتبها نجيب محفوظ فى مسيرته الإبداعية، وتدور هذه الرواية فى عصر الملك خوفو، وقد سماها محفوظ باسم «حكمة خوفو» لكن سلامة موسى غيَّر اسمها إلى «عبث الأقدار».

وثانى عمل له كان بعنوان «رادوبيس» (1943) وهى تدور حول الفاتنة الحسناء رادوبيس. والرواية الثالثة هى «كفاح طيبة» (1944) وهى عن كفاح مصر ضد الهكسوس، وانتصارها بقيادة ابنها البطل «أحمس». وتتجلى ثقافة نجيب محفوظ العميقة بتاريخ مصر من خلال عمله الإبداعى «أمام العرش» (1983)، وهو حوار مع حكام مصر من مينا حتى الرئيس السادات.كما يأتى الأديب على أحمد باكثير من ضمن الأدباء الذين استقوا من تراث مصر الفرعونية مادة لأعمالهم رغم أنه لم يكن مصريا خالصا، وهو من القلائل الذين أبدعوا فى مختلف الفنون الأدبية، فكتب المسرحية والرواية والشعر. وله أربع مسرحيات فى هذا السياق، وهى: «إخناتون ونفرتيتى» (1938)، و«أوزوريس»، و«الفلاح الفصيح»، و«الفرعون الموعود».
ومن خلال أسماء المسرحيات نلاحظ أن على أحمد باكثير مغرم بالموضوعات الأسطورية، وقد أوضح سبب غرامه بهذه الموضوعات فى كتابه «فن المسرحية من خلال تجاربى الشخصية»، فهى أكثر انطلاقا من القيود الزمنية والظروف المحلية، فالحادث المعاصر إذا تقادم يصير تاريخا والتاريخ إذا تقادم يصير أسطورة. كذلك ليتخلص من مشكلة اللغة، فهو يحبذ الفصحى، والرأى الشائع أن اللغة الفصيحة تستعمل فى المسرحيات التاريخية والمسرحيات المترجمة، أما اللغة الدارجة فتستخدم فى المسرحيات العصرية. أيضا من ضمن أسباب غرامه بالأساطير هو قلة ميله إلى الموضوعات الاجتماعية.
وأخلص الشاعر أحمد زكى أبوشادى لمصر الفرعونية، وأصدر ديوانه «وطن الفراعنة» عام 1926، وفيه يتغنى بأمجاد مصر وآثارها القديمة، وله قصائد تدور حول الأهرام وأبى الهول ووادى الملوك ومعبد الكرنك وغيرها
بقلم.حسين السيد
المصدر: الاهرام
تغطية مستمرة على مدار الساعة من منصة “غرد بالمصري”:
تابع أحدث الأخبار والتقارير في جميع الأقسام: